الثورة – غصون سليمان:
تواجه البشرية عبر تاريخها صعوبات مختلفة على صعيد التغير المناخي وتقلباته وتأثيراته على مجمل النشاط الإنساني بدءا من صحة الإنسان والأسرة وليس انتهاء بالبيئة الجغرافية المحيطة.
ولطالما يشكّل تغيّر المناخ تهديداً أساسياً لصحة الإنسان. ويؤثّر على البيئة المادية وعلى جميع جوانب النظم الطبيعية والبشرية بما في ذلك الظروف الاجتماعية والاقتصادية وأداء النظم الصحية.
فقد ركزت عناوين اليوم الدولي للأسرة، ٢٠٢٤ على أهمية غرس العادات المستدامة والوعي المناخي منذ سن مبكرة عند الأبناء، وإبراز الدور الذي تلعبه الأسرة في هذا المجال، والتأكيد على أثر التعليم في التوعية بمفهوم التغير المناخي، باعتباره عاملا مضاعِفا للتهديد يقوّض عقوداً من التقدم الصحي.
ظهور أمراض مختلفة
وتشير مراكز الدراسات والأبحاث العالمية أنه مع تغير الظروف المناخية، لُوحظ حدوث ظواهر جوية ومناخية أكثر تواتراً وكثافة، بما في ذلك العواصف والحرارة الشديدة والفيضانات وحالات الجفاف وحرائق الغابات.
وهذه المخاطر الجوية والمناخية تؤثر على الصحة بشكل مباشر وغير مباشر، ما يزيد من خطر الوفيات، والأمراض غير السارية، وظهور الأمراض المعدية وانتشارها، وحدوث حالات الطوارئ الصحية.
ويؤثر تغير المناخ أيضاً على القوى العاملة والبنية التحتية في مجال الصحة، ويحدّ من القدرة على توفير التغطية الصحية الشاملة. والأهم من ذلك أن الصدمات المناخية والضغوط المتزايدة، مثل تغير درجات الحرارة وأنماط هطول الأمطار والجفاف والفيضانات وارتفاع مستويات سطح البحر، تؤدي جميعها إلى تدهور المحددات البيئية والاجتماعية للصحة البدنية والعقلية. وبالتالي تتأثّر جميع جوانب الصحة بتغيّر المناخ، من نقاء الهواء والماء والتربة إلى النُظم الغذائية وسُبل العيش. وسيؤدي المزيد من التأخير في التصدي لتغير المناخ حسب نتائج الأبحاث العلمية إلى زيادة المخاطر الصحية، وتقويض عقود من التحسينات في الصحة العالمية، والتعارض مع الالتزامات الجماعية بضمان حق الإنسان في الصحة للجميع.
مخاطر مناخية
وفي هذا السياق خلص تقرير التقييم السادس الصادر عن الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ (IPCC) إلى أن المخاطر المناخية تظهر بوتيرة أسرع وستصبح أكثر حدة في وقت أقرب مما كان متوقعاً في السابق، وسيكون من الصعب التكيّف مع زيادة الاحترار العالمي.
ويظهِر أيضاً أن 3.6 مليارات شخص يعيشون بالفعل في مناطق شديدة التعرض لتغير المناخ.
وعلى الرغم من أن البلدان منخفضة الدخل والدول الجزرية الصغيرة النامية تساهم بقدر ضئيل جداً في الانبعاثات العالمية، فإن هذه الدول تتحمل أقسى الآثار الصحية. وفي المناطق المعرضة للخطر، كان معدل الوفيات الناجمة عن الظواهر الجوية المتطرفة في العقد الماضي أعلى 15 مرة من المناطق الأقل تعرضاً للخطر.
طرق التأثير
ووفق الأبحاث التخصيصة يؤثر تغير المناخ على الصحة بطرق عديدة، منها التسبب في الوفاة والمرض نتيجة الظواهر الجوية المتطرفة التي تزداد تواتراً، مثل موجات الحر والعواصف والفيضانات وتعطل النظم الغذائية، وزيادة الأمراض الحيوانية المنشأ، والأمراض المنقولة بالأغذية والمياه والنواقل، ومشكلات الصحة النفسية. وعلاوة على ذلك، يقوّض تغير المناخ العديد من المحددات الاجتماعية للصحة الجيدة، مثل سُبل العيش والمساواة وإتاحة الرعاية الصحية وهياكل الدعم الاجتماعي. في حين تمس المخاطر الصحية المتأثرة بالمناخ أكثر الفئات ضعفاً وحرماناً بشكل غير متناسب، بما في ذلك النساء والأطفال والأقليات الإثنية والمجتمعات الفقيرة والمهاجرون أو النازحون وكبار السن والأفراد الذين يعانون من ظروف صحية كامنة.
صعوبة التقدير
ورغم أن تغير المناخ يؤثر تأثيراً واضحاً على صحة الإنسان، فإنه يظل من الصعب تقدير حجم وتأثير العديد من المخاطر الصحية المتأثرة بالمناخ على نحو دقيق. ومع ذلك فإن أوجه التقدم العلمي تتيح لنا تدريجياً تحديد زيادة في معدلات الاعتلال والوفيات الناتجة عن الاحترار العالمي، وتحديد المخاطر التي تنطوي عليها هذه التهديدات الصحية ونطاقها على نحو أدق.
بالأرقام
وتشير بيانات المنظمة إلى أن ملياري شخص يفتقرون إلى مياه الشرب المأمونة وأن 600 مليون شخص يعانون من الأمراض المنقولة بالغذاء سنوياً، وتبلغ نسبة الأطفال دون سن الخامسة الذين يموتون بالأمراض المنقولة بالأغذية 30%. وتزيد الضغوطات المناخية من مخاطر الأمراض المنقولة بالمياه والأغذية. وفي عام 2020، واجه 770 مليون شخص الجوع، وكان معظمهم في أفريقيا وآسيا. ويؤثّر تغيّر المناخ على توافر الأغذية وجودتها وتنوعها، مما يؤدي إلى تفاقم أزمات الغذاء والتغذية.
انتشار الأمراض المنقولة
وتزيد التغيّرات في درجات الحرارة وهطول الأمطار من انتشار الأمراض المنقولة بالنواقل، ومن دون اتخاذ تدابير وقائية، قد ترتفع الوفيات الناجمة عن هذه الأمراض، التي تتجاوز حالياً 700 ألف حالة سنوياً.
كما يؤدّي تغيّر المناخ إلى مشاكل فورية في الصحة العقلية، مثل القلق والاكتئاب التالي للصدمة، وكذلك اضطرابات طويلة الأجل بسبب عوامل مثل النزوح واضطراب التماسك الاجتماعي.
وتعزو الأبحاث الحديثة نسبة 37% من الوفيات المرتبطة بالحرارة إلى تغيّر المناخ الناجم عن النشاط البشري. حيث ارتفعت نسبة الوفيات المرتبطة بالحرارة بين الأشخاص الذين تزيد أعمارهم عن 65 عاماً بنسبة 70% خلال عقدين. وفي عام 2020، عانى 98 مليون شخص إضافي من انعدام الأمن الغذائي مقارنة بالمتوسط خلال الفترة 1981-2010. وتتوقع المنظمة بشكل متحفظ وقوع 250 ألف حالة وفاة إضافية سنوياً بحلول عام 2030 بسبب آثار تغير المناخ على أمراض مثل الملاريا والفيضانات الساحلية. ومع ذلك لا تزال تحديات النمذجة قائمة، خاصة فيما يتعلق باحتساب المخاطر مثل الجفاف وضغوط الهجرة.
وتهدّد أزمة المناخ بنسف التقدم الذي أُحرز على مدى الأعوام الخمسين الأخيرة في مجالات التنمية والصحة العالمية والحد من الفقر، وتهدّد أيضاً بزيادة توسيع أوجه التفاوت في الصحة في أوساط الفئات السكانية وفيما بينها. وهي تهدّد بشدة تحقيق التغطية الصحية الشاملة بطرق شتى منها زيادة تعقيد الأعباء الحالية للأمراض ومفاقمة الحواجز القائمة أمام إتاحة الخدمات الصحية، وغالباً في الأوقات التي تشتد فيها الحاجة إليها. ذلك أن أكثر من 930 مليون شخص ــ نحو 12% من سكان العالم ــ ينفقون 10% على الأقل من ميزانية أسرهم من أجل تغطية تكاليف الرعاية الصحية. ولما كان معظم أفقر الناس لا يستفيدون من تأمين طبي، فإن الصدمات والضغوط الصحية تدفع بالفعل قرابة 100 مليون فرد إلى براثن الفقر كل عام، مع تفاقم هذا الاتجاه نتيجة لتأثيرات تغير المناخ.
استجابة منظمة الصحة العالمية
تتمحور استجابة المنظمة لهذه التحديات حول 3 أهداف رئيسية منها:
تعزيز الإجراءات التي تقلّل من انبعاثات الكربون وتحسن الصحة: أي دعم الانتقال السريع والمنصف إلى اقتصاد الطاقة النظيفة،وضمان أن الصحة تشغل مكاناً محورياً في سياسة التخفيف من آثار تغير المناخ؛ وتسريع إجراءات التخفيف التي تحقق أكبر قدر من المكاسب الصحية، وحشد قوة المجتمع الصحي من أجل دفع تغيير السياسات وبناء الدعم العام.
والأمر الثاني بناء نظم صحية أفضل وأكثر قدرة على الصمود في وجه تغيّر المناخ ومستدامة بيئياً ، بمعنى ضمان الخدمات الأساسية والاستدامة البيئية والقدرة على الصمود في وجه تغير المناخ كمكونات أساسية للتغطية الصحية الشاملة والرعاية الصحية الأولية؛ ودعم النظم الصحية للقفز إلى حلول أرخص وأكثر موثوقية وأنظف، بالتوازي مع إزالة الكربون من النظم الصحية عالية الانبعاثات، وتعميم القدرة على الصمود في وجه تغير المناخ والاستدامة البيئية في استثمارات الخدمات الصحية، بما في ذلك قدرة القوى العاملة الصحية.