الثورة – رفاه الدروبي:
بردى النهر الخالد يروي دمشق وريفها، وكان الدمشقيون يرون فيه السرَّ الخالد، فاسمه مشتق من اللغة العربية، ويعني الماء البارد العذب له خاصيَّة ضدَّ أمراض الجدري والجذام، كونه لايُصيب شاربيه بالمرض..
المعلومات المذكورة كانت موضوع نقاش وحوار بدأها المحاضر محمد منير أبو شعر عنوانها “بردى النهر والتاريخ” وترأس جلستها مدير ثقافي أبو رمانة عمار بقله.
استهلَّ المدير بقله حديثه؛ إنَّه سمِّي بنهر الجنة واعتمدت حياة الدمشقيين عليه، وذكرت كتب التاريخ فيضانه في شوارع دمشق في النصف الثاني من القرن العشرين لكنّه انحسر في تسعينات القرن الماضي.
بدوره الدكتور محمد منير أبو شعر أشار إلى أنَّه ينبع من منطقة الزبداني في قرية موغلة في التاريخ اندثرت كان اسمها “قنوا”.
اتخذ عبر العصور أسماء كثيرة، وتشير أغلبية المصادر التاريخية إلى أنَّ أول ذكر له كان في القرن التاسع عشر قبل الميلاد، إذ ورد في الكتاب المقدَّس في سفر الملوك الرابع أنَّ اسمه كان “أبانه”، وتعني الصخور المُتشقِّقة المُتفجِّرة منها المياه، مُنوِّهاً إلى ما قاله ابن عساكر في تاريخ دمشق: كان يعرف قديماً باسم نهر “باراديوس” ويعنى الفردوس وأطلق عليه الإغريق اسم نهر الذهب.
ولفت أبو شعر إلى أنَّه يجتاز أربعة عشرة قرية خلال جريانه يتسرَّب عبر أقنية معدَّة له يخترق منها البيوت فيعاشرهم داخل منازلهم، ويبدو في سواقٍ تتشكَّل منها بحرة تُزيِّن فسحة الدار أو يتدفَّق من صنبور في المطابخ وكأنَّه شريك لا غنى عنه في السكن والمعيشة، بينما ترى أصنافاً من الفاكهة المختلفة تتساقط من أشجار البساتين المحيطة بمجراه وسواقيه من أصناف الخوخ والتفاح والدراق، ويسير النهر مختالاً بغنج ودلال وفق مسار طبيعي يُسمَّى وادي بردى حتى يصل إلى منطقة الهامة، وقبل وصوله إلى الربوة يتفرَّع عن ضفته اليمنى أربعة فروع: “بانياس، القنوات، الديراني، المزاوي” ، وعن ضفته اليسرى فرعان هما: “يزيد وتورا” أمّا النهر الأصلي فيتابع سيره نحو دمشق حيث يسير وسط بساتين ورياض الغوطة حتى ينتهي مجراه ليصبَّ في بحيرة العتيبة.
كما لفت الدكتور أبو شعر إلى أنَّه يوجد العديد من لوحات الفسيفساء تُبيِّن أنَّ النهر يمرُّ بين منازل المدينة واِحداها موجودة في الجامع الأموي، إضافة إلى سُبلان الماء لتروي المارَّة، إذ بلغ عددها ٤٠٠ سبيل ومائة حمام وأربعين داراً وضوءاً، ونقشت صورته قديماً على النقود، لذا قال الرحَّالة العربي ابن جبير في رحلته إلى دمشق عام ١١٨٤:
“إنَّ أرضها سئمت كثرة المياه، فاشتاقت إلى الظمأ، وذلك لما اشتهرت به دمشق بوفرة المياه، وتنوّع مصادرها منذ فجر التاريخ فكان بردى وقنواته المتعددة الشرايين المغذية للأرض، فتزهر رياحيناً وأشجاراً باسقة متنوعة الثمر”.
كما رأى أنَّ أهالي دمشق عشقوا النهر فبنوا على ضفتيه الحضارات، المتعاقبة عليها منذ فجر التاريخ في تشييد مستمر لاينقطع أبداً، ومنها امتدت شرايين الحضارة إلى العالم، ومن عقول أبنائها انطلقت العلوم والفنون والآداب عبر القوافل التجارية، ووجدوها ينبوع ثقافة للعالم وممالك وقصور. معاجم ومكتبات.. رسوم ولوحات مسمارية.. وتعتبر إرثاً مثمراً وعطاء للحضارات محفوظة للأجيال في بطون التلال بل مئاتها، وتحتضن كنوز التاريخ والجمال فبنى أثرياء دمشق القصور على ضفافه، وفي عهد نور الدين محمود زنكي بنى في الربوة قصوراً للفقراء وأحبَّ ألا يُحرم الفقر اء من قصر يصطافون فيه، متغنياً في نهاية حديثه بقصائد كثيرة لعدة شعراء، منهم: “البحتري، بدوي الجبل، جوزيف حرب، مصطفى عكرمة، نزار بني المرجة” ومن قصيدة حسان بن ثابت نسوق البيت التالي:
يسقونَ من وردِ البريص عليهم
بردى يُصفِّقُ بالرحيقِ السلسلِ..
وأحمد شوقي في قصيدة شدا فيها:
سلامٌ من صبا بردى أرقّ
ودمعٌ لا يُكَفكفُ يا دمشقُ..
أمَّا الأخطل الصغير بشارة الخوري:
بردى هل الخلدُ الذي وعدوا به
إلاكَ بينَ شوادنٍ وشوادي..
وسعيد عقل غنَّتْ من شعره المطربة فيروز، إذ أنشد عن الشام ونهرها:
قرأتُ مجدَك في قلبي وفي الكتبَ
شآمُ ماالمجد أنتِ المجد لم يغب
إذا على بردى حورٌ تأهَّلَ بي
أحسستُ أعلامَك اختالتْ على الشهب..
كما أنشد:
مُرَّ بي ياواعداً وعدا
مثلما النسمةُ من بردى..
وأردف الشاعر نزار قباني:
يا شامُ إنْ كنْتُ أُخفي ما أُكابدُهُ
فأجمل الحبِّ حبٌّ بعد ما قيلا
هواك يا بردى كالسيفِ يسكنُنِي
وما ملكت لأمرِ الحبِّ تبديلا..
