الملحق الثقافي- ديما يوسف سليمان:
مقاومة وثورة وتحد هي الكلمةُ في وجهِ المدفع، هي نار الحروف في وجهِ نار السّلاح؛ ومنذ أن بدأَ الوجعُ الفلسطينيّ وسالَتْ دماءُ الشّهداء دفاعاً عن أرضِ فلسطين، كانت الكلمةُ سلاحاً آخرَ في وجه العدوانِ والعنصريّة والحصار؛ وكتب أدباءُ فلسطين حكاياتِ البطولةِ والمعاناة، كما كتب شعراء فلسطين ووثقوا لحكايات هذه الحرب وللمعاناة والشهادة في سبيل قضيتهم الفلسطينية فالأدب كان ولا زال مرآةَ الواقع، وهذا ما حصلَ حقيقةً فماذا سيكتبُ أدباءُ فلسطين وشعراؤها وكلُّ ما هو حولهم حربٌ ودماءٌ وقتلٌ وتهجير ؟ ومن قلبِ المعاناةِ والموت، انبرى الشّعراءُ لوصف واقعٍ هم جزءٌ منه يقولُ الشّاعر الفلسطينيّ «توفيق زياد ١٩٢٩ _١٩٩٤ « : أُناديكُم أشدُّ على أياديكم وأبوسُ الأرضَ تحتَ نعالِكم فمأسَاتِي التي أحيَا نصيبِي من مَآسيكم نعم؛ كلُّ أديبٍ فلسطينيّ هو ابنُ هذا الواقع المرّ والقاسي ومأساتُه ماهي إلّا جزءٌ من مأساةِ شعبٍ بأكملِه، يواجه عدوّاً لا يرحم و لا يتورّعُ عن ارتكابِ المجازرِ الوحشيّةِ مستعملاً كلَّ صنوفِ الغدرِ والهمجيّة، وسجّلَ التّاريخُ مجازر يندى لها جبين الإنسانية ..قاومَ الشّعبُ الفلسطينيُّ بالحجارةِ والسّلاح وعلى كلِّ الجبهاتِ بطشَ الصهيونيّ، وأيضاً الأدبُ على كل الجبهاتِ الأدبيّة شعراً وقصّةً وروايةً ونثراً ومسرحاً و الأديب الفلسطيني غسان كنفاني تحدّثَ عن أدبِ المقاومة، بل هو أوّلُ من أطلقَ هذا المصطلح على الأدبِ الذي جاءَ وليدَ القضيّة وجاء كتابه ( الأدب الفلسطينيّ المقاوم تحت الاحتلال 1948_ ١٩٦٨) حيث اعتبرَ أنّ الشكل الثقافيَّ في المقاومة لا يقلّ أهميّةً عن مقاومة السّلاح، وكانت روايتُه الهامّة (عائدٌ إلى حيفا ) التي تصوّر قصّةَ عائلة فلسطينيّة قرّرَت العودة إلى حيفا، حيثُ تشرّدَت هذه الأسرة الأبُ والأمّ بينما ظلّ طفلُهم في حيفا، وقصّتُه « حقٌّ لا يموت « التي تتحدّثُ عن حقّ الفلسطينيين الثابت بأرضهم .. كانَت كلماتُ كنفاني وأدبُه أقوى من مدافع العدوّ وأسلحتِه الثّقيلة، التي تحصدُ أرواحَ المدنيين الفلسطينيين والمقاومين، وجاءَ قرارُ تصفيّة كنفاني، حيث تمّ تفجيرُ عبوةٍ ناسفة بسيّارتِه في بيروت عام ١٩٧٢، اغتالَ الاحتلالُ كنفاني، لكن بقيَت كلماتُه تعلنُ التّمرّدَ والمقاومةَ وتفضحُ عنصريّةَ الاحتلال وتتحدّثُ عن فلسطين والحقّ الفلسطينيّ الذي لا يموت.. أمّا شعراءُ فلسطين صارَتْ قصائدُهم مذهباً في عشقِ الشّهادة، ففي قصيدتِهِ الشّاعر الفلسطينيّ « سميح القاسم _١٩٣٩ _ ٢٠١٤ « يصرخ : خلّوا الشّهيدَ مكفّناً بثيابِهِ خلّوهُ في السَّفحِ الخبيرِ بما بِهِ لا تدفنُوهُ ففي شفاهِ جراحِهِ تدوي وصيّةُ حبّهِ وعذابِهِ لا تغمضوا عينيه إنّ أشعّةً حمراءَ ما زالَت على أهدابِه وعلى الصّخورِ الصّفرِ رجعُ ندائِهِ يا آبهاً بالموتِ لستُ بآبهِ القضيّةُ الفلسطينيّةُ ليست أرقامَ شهداء وتهجير وتشرّد، بل هي حكايةُ حقٍّ تتوارثُه الأجيال، رغم رهان العدوّ أن تشيخَ القضيّةُ وتموتَ بموتِ الأجيالِ الأولى لبدايتها، لكن جاءَت عمليّةُ « طوفان الأقصى» لتثبتَ أنَّ ثمّةَ حقٍّاً توارثَت الأجيالُ الإيمانَ به والتّضحيةَ لأجلِه والذودَ عنهُ بالمقاومةِ المشروعة، وأنه وإن كانت الهمجيّةُ الصهيونيّةُ هي نفسها، فرغم مرورِ أكثر من خمسةٍ وسبعينَ عاماً على المعاناة لكنّ العنفَ و الهستيريا الصهيونيّة هي نفسها وردّها الهمجيّ على عمليةِ طوفانِ الأقصى يعيدُ إلى الأذهانِ وجهَ الكيان الإرهابيّ البحت، وهذا ما صوّرَه شعراءُ فلسطين منذ النّكبة إلى الآن لكن رغم الموت والحصار وحرائق العدو ومجازره وسجونه فإنّ كلَّ سنبلةٍ تجفّ ستملأ الوادي سنابل قالها الشاعر الفلسطينيّ «محمود درويش _١٩٤١ _٢٠٠٨ « : يا دامي العينين والكفّين إنّ الليل زائل لا غرفةُ التوقيف باقية ولا زردُ السلاسل نيرونُ مات ولم تمت روما بعينيها تقاتل وحبوبُ سنبلةٍ تجفّ ستملأُ الوادي سنابل إنّه عدوًٌ لا يرحم؛ و سياسةُ قتلِ المدنيّين والأطفال التي نراها اليوم ليسَت جديدةً عليه فمن منّا لم يشعرْ بألمِ الصّور التي تنطقُ بها قصيدةُ «رأيتُ اللّه في غزّة «للشّاعر الفلسطينيّ « يوسف الخطيب١٩٣٢ _٢٠٢٣ « حيث قال : رأيتُ اللّه في غزّة يؤرجحُ فوق نورِ ذراعه طفلاً إلى الأعلى ويمسحُ في سكونِ اللّيل أعينَ أمّه الثّكلى رأيتُ اللّه في السّاحات يغمضُ أعينَ القتلى ويسقي في مدافنهم غصونَ الآس والدّفلى يزقُّ صغارَه السّبغينَ باللّقمة يطوفُ على شبابيكِ السّجون يضيءُ فوق شفاهِهم بسمة صورٌ مؤلمةٌ عن منهجية العدوّ في قتلِ الأطفال وتشريد العائلات، كان الخطيب يصوّرُ المعاناةَ في مرحلةٍ سابقةٍ من العدوان، واليومَ نقرأُ الكلمات وكأنّها تحدّثُنا عن مجازرِ اليوم التي يرتكبها العدوُّ الصهيونيّ على قطاع غزة. ومنذ المعاركِ الأولى مع المحتلّ كانَت مشاهدُ الخرابِ هي الأشدُّ تأثيراً، فالعدوُّ عبرَ ما يقاربُ القرنَ من الزّمن ينتهجُ سياسةَ القتلِ والتّهجيرِ والتّشريدِ وهدمَ البيوتِ فوق ساكنيها، ولكن لماذا البكاءُ أمامَ شراسةِ العدوّ وهمجيّته والدّمار هذا ما أعلنته «فدوى طوقان _١٩١٧ _٢٠٠٣ « رغم مشاهدِ الخراب والدّمار التي خلّفها العدوّ في يافا، تجاوزَت الشّاعرةُ الفلسطينيّةُ آنذاكَ ألمَ الصّورةِ لتنتهجَ رسالةَ حبٍّ وتحيّةٍ لأبطالِ المقاومةِ و أعلنَتْ في قصيدتِها ( لن أبكي ) أنّها لن تبكي بل ستستلهمُ نورَ الإيمان بالأرضِ والإنسان من بطولاتِهم حيثُ تقول : أحبّائي مسحْتُ عن الجفونِ ضبابةَ الدَّمع الرّمادية لألقاكُم وفي عينيَّ نورُ الحبِّ والإيمان بكمْ بالأرضِ بالإنسان وها أنا يا أحبّائي إلى يدِكم أمدُّ يدِي وعندَ رؤوسِكم ألقي هنَا رأسِي وها أنتم كصخرِ جبالِنا قوّة كزهرِ بلادِنا الحلوة فكيفَ الجرحُ يسحقُني وكيفَ اليأسُ يسحقُني وكيفَ أمامَكم أبكي يميناً بعد هذا اليوم لن أبكي منذ بداية الوجع الفلسطيني لم يقلّ يوماً دفاعُ أدباءِ فلسطين ومفكّريها وشعرائِها بالكلمةِ عن دفاعِ الثّوارِ بالسّلاح، وكثيرون منهم عانوا السّجنَ والحصارَ والملاحقةَ لكن ماقدمه الأدب والشعر الفلسطيني عبر هذه الحرب وماوثّقه شعراء فلسطين بات مذهباً في حبّ الوطن، وفي تصوير المعاناة الإنسانيّة والحثّ على النّضال والدّفاع عن الوطن، وكان هذا هاجس القلم الفلسطيني كما العربي، فكم كُتب عن فلسطين شعراً وأدباً ونثراً ومسرحاً ! لتظلّ فلسطين القضية الأولى، ولا يزال الكثير ليُكتب عن ملاحم البطولة والصّمود الفلسطينيّ.
العدد 1192 – 4 -6-2024