الملحق الثقافي- حسين صقر:
كلنا يعلم أن للبيئة أثراً كبيراً في بناء وصقل شخصية المبدع، أياً كان الجنس الأدبي الذي ينتجه، ولعل قصة الشاعرعلي بن الجهم مع الخليفة هارون الرشيد لا تخفى على أحد من الوسط الثقافي، لأن ما جاء به من أشعار، كانت بسبب البيئة التي نشأ وترعرع فيها.
ولهذا من المؤكد أن الشاعرأوالأديب يتخيل كلّ ما حوله وما تحتويه هذه البيئة من عناصروأدوات وألفاظ وعادات، ثم يحوله إلى كلمات و صور بيانية، وينسجها في قصيدة أو رواية أو قصة.
هذه العوامل بالتأكيد تطبع الذوق، وتستقرفي اللاشعور، ثم يستعيدها الكاتب أولاً بأول، لتكون جميع العوامل التي ذكرت دوراً بارزاً في بناء القصيدة أو القصة أو الجنس الأدبي المقصود.
هذه البيئة هي الطبيعة التي تمثل المكان الجغرافي وما يحتويه، ولهذا فالمبدع يحاكي بإنتاجه ما يتأثر به ويتفاعل مع موجوداته. فالشاعر أو الأديب البدوي يضرب أمثالاً ويشبه بما حوله كالجمل والصحراء والخيام وأراضي الرعي، والأفعال كالغزوات والحروب، فيما يصورالشاعرالحضري المعالم الحضرية التي تحيط به من أبنية شاهقة وشوارع وحدائق ومدارس وغيرها.
وبالتالي فالحياة البدوية القاسية و الصعبة سوف تؤثر بالضرورة على ألفاظ البدوي، فتراه يمعن في وصف تلك الموجودات، وحتى لو جاءت من كلمات ومعان قاسية، إلا أنها تعكس حياته وبيئته وسوف تأتي رغم قساوتها رشيقة ومقاصدها لطيفة.
ولهذا عندما سمع الخليفة الرشيد كلمات ابن الجهم، استل أحد الحراس سيفه ليقتله، فقال له الخليفة: أكمل وأكمل حتى النهاية، وعندما أتم، أمر له ببناء منزل على ضفاف دجلة، ليستدعيه بعدها، ثم يسمع ما أبدع، فجاء بقصيدة :
عيون المها بين الرصافة والجسر ..جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري..
إلى آخر القصيدة التي أحدثت تغييراً ترك في نفسه أبلغ الأثر.
صحيح أن لكل شاعر أسلوبه الخاص الذي يميزه عن غيره، وهذا التميز لا ينحصر في القاموس المفرداتي أو التركيبي لنتاج الشاعر فحسب، ولكن كما ذكرنا سوف يطغى بالتأكيد سوف يؤثر الجانب البيئي على المنتج، وسوف يتجلى ذلك بوضوح في الأسلوب البنائي للنص، كما أن هذا الأثر القابع في العمق قد يصبح ظاهرة أو ظلاً مهيمناً ومميزاً لمجموع الشعراء المنتمين لتلك البيئة، والدليل على ذلك أن كاتباً درامياً مثلاً ينحدر من قرية، سوف يكتب عن عاداتها وتقاليدها وقصص أهلها، كذلك كاتب من المدينة سوف يحكي قصصاً مختلفة عما أدرجها سابقه.
إذاً لا يخفى الفرق ما منتج وآخرمن حيث الأسلوب بين الإقامتين.
فعندما يستلهم الشاعر الطبيعة مثلاً في شعره، فهو بذلك يجسد مدى ما تعطيه تلك الطبيعة من مشاعر ومن أدوات تجعله يبدع في قصائده بمختلف اشكالها، لكن البيئة لاتكفي،، فذلك يتطلب إحساساً بالجمال والعاطفة، وذلك الإبداع هو ما يشكل شخصية الشاعر التي نراها من خلال قصيدته.
و على سببل المثال شعراء العصر الجاهلي وصفوا صحراءهم وتفننوا في وصفها لكن هذا الوصف لم يتعد الجانب المادي، وفي العصرالأموي والعباسي عندما انتقل العرب المسلمون الى البلدان المفتوحة وارتقت حياتهم الاجتماعية فأضافت على وصف الطبيعة وصف المظاهر المدنية والحضارة.
و يقول الشاعر ابن خفاجة الأندلسي:
لله نهر سال في بطحاء
أشهى وروداً من لمى الحسناء
متعطف مثل السوار كأنه
والزهر يكنفه مجر سماء
قد رقّ حتى ظنّ قوساً مفرغاً
من فضة في بردة خضراء
و هنا الشاعر يصف نهراً في الأندلس تتضح فيه مدى تأثر الشاعر بالطبيعة الجميلة.
و البيئة لاتؤثر في الإبداع وحسب، في الحالة النفسية التي تسلطت عليه أثناء ابداعه الكتابي وقد جاء (فرويد) ليجعل اللاشعور الشخصي هو المصدر الحقيقي للإبداع، وقال: إن الإبداع هو تنفيس عن الصراع المعتمل داخل الشخصية، والمتمثل في القمع والكبت، والمتطلع إلى أنواع شتى من السلوك، أرفعها التسامي الذي يؤدي الى إظهار العبقرية. وهو رغبة لم تجد تلبية لها في عالم الواقع، فانصرفت إلى عالم الخيال، وبهذا يبدوالإبداع تعويضاً عن غرض أدنى بغرض أسمى.
العدد 1192 – 4 -6-2024