الملحق الثقافي- آمنة بدر الدين الحلبي:
«مادوّنَه الغبار» رواية تعجُّ بالأحداث في المدينة الفلسطينية «اللّد» رأس مسقط الصديقة الصدوق والروائية الفلسطينية دينا سليم حنحن والمقيمة في المهجر استراليا منذ زمن سرمدي وكأنه دهرا حاملة معها ذكرياتها بكلّ حزنها وفرحاً، وآلامها وآمالها.
حين التقيتها في مدينة دبي قبل عامين قدّمت لي روايتها التاسعة الصادرة أواخر عام 2021م من دار النشر»مكتبة كلّ شيء» بغلافها المصّفر الذي يكتوي بالغبارويدلُّ دلالة واضحة عما يعتلج بين صفحاتها الخمسمائة من أحداث تغلي بالصقيع، وتتجمد بالبرودة لواقعية أحداثها. ما قبل النكبة 1948م وما بعدها تدور في مدينة اللد الجميلة التي تقع على مسافة 16 كلم جنوب شرق مدينة يافا وخمس كيلومترات شمال شرق الرملة.
وبما أن المدينة موجودة عند ملتقى طرق المواصلات وملتقى خطوط السكك الحديدية بين يافا والقدس. وكأنها في الماضي كانت مسيطرة على الطريق الرئيسي وسكة الحديد حسب الرواية التي تدور فيها الأحداث نظراً للحنين في قلب دينا الكاتبة والروائية ولدت وعاشت في مدينة اللد لفترة شبابها فقد استوطن على جسد ذاكرتها أحداث جمة مليئة بالألم حدّ الوجع، وبالحزن لو وُزع على العالم لامتلأ العالم بالحزن. حزمت حقائبها ورحلت إلى منفاها في استراليا حاملة معها وجعاً مغمساً بالصبر والأناة باحثة عن عيش تتلمس بين جنباته الأمن والأمان والسلام مع أولادها الأربع.
لكن دينا ذات الروح المشتعلة بعشق الوطن كأي سيدة عربية فما بالنا مدينة «اللّد» في فلسطين التي كانت ومازلت مطمع للغزاة نظرا لجمالها، وكحل عينيها، وإرثها التاريخي، وهمسات روحها، حملته دينا وزرعته في روحها إلى أن يبلغ المخاض وعده، فولدت إبداعاتها الثرية وانتماءها الجميل لوطن كان ومازال تحت الاحتلال الاسرائيلي بهمجيته وإجرامه.
وهذا ما أكدت عليه الكاتبة والناقدة نجمة خليل حبيب على الغلاف الخارجي للرواية: («ما دونه الغبار» على مرّالسنين في الذاكرة الفلسطينية رواية وفيه لعنوانها، لأنها تحكي فلسطين من ذاكرة المغلوبين وبلسان أبناء اللد الذين أصابهم ما أصاب غيرهم من المدن الفلسطينية من تهجير وتدميروسحل وتطهيرعرقي بطلتها الرئيسية الجدة جميلة التي سردت على حفيدتها حكاية عائلتها وعشقها الجميل والإنساني لرشدي ووقوفها إلى جانبه في معارك 1948م، وإخلاصها ووفاءها اللامحدود حتى مماتها المأساوي المرير).
جميلة الجدة حكت قصصاً جميلة قبل النكبة وعيشاً هانئاً رغيداً وعلاقات اجتماعية متطورة، وكيف التقت بحبيبها رشدي وتزوجته، وروت عن العلاقات الأسرية والروابط الاجتماعية المتينة، فيما يروي سارد آخر ما كان في المجتمع اللداوي من فوضى وانتهازية وتسوّل وبطالة وسرقات وتهريب بضائع.
لكن ظلت جميلة لآخر حياتها تحمل الحنين في أعماقها كما دينا الروائية وعندما حملت هموماً لزيارة أهلها في السلط بعد فقدان زوجها رشدي في غمرة حرب 1948م أُعيدت جميلة من الحدود الأردنية بسبب الخلل المتواجد في تأشيرة الدخول.
هو الحنين لثرى الوطن لا مثيل له وكأن الروائية دينا قالت عشقي لن ولم ينته لأرض فلسطين كما جميلة هو ساكن في الشريان والوريد، ويجول في الروح والنفس، الحنين لكلّ شيء في الوطن رائحة الأرض والشجروالزعتر والزيتون.
وكررت المحاولة الثانية جميلة فلم تهنأ برؤية والدتها فعصرها الحنين وكمش روحها الشوق بسبب تعثُّر قدوم والدتها من السلط لسوء الأحول الجوية لأنها كانت في زيارة لأقربائها في إحدى القرى. ما دفع جميلة الودودة للعودة إلى اللد بخفي حنين لينهش الضياع قلبها ومجامع الشوق روحها من جديد.
ولم تيأس جميلة فكررت المحاولة الثالثة، ولحظة وصولها إلى السلط راحت تبحث بعينيها عن والدتها بين الحضور فلم تجدها، لأنها أُبعدت عن المدينة قصداً، ولم ترها فجرّت الخيبة أذيال رؤاها.
والأشد إيلاماً ووقعاً على أحاسيسها حين نشبت حرب الأيام الستة 1967م ألغيت حينها تصاريح دخول الأراضي الأردنية، شعرت بانتهاء حلمها، وغاب الوصال. وبقيت سبعة وعشرين عاماً تتألم على نار الفراق.
وما يؤلم أكثر حين أُبرمت معاهدة السلام بين الأردن وإسرائيل عام 1994 فتحت الحدود وأصبح عبور نهر الأردن مسموحاً، بعد أربعة أشهر من موت جميلة.
أي عذابات انتظر الشعب الفلسطيني منذ دخول الاحتلال وإلى الآن، وأي ذل وإهانة وتشريد وتهجير وقضم للأراضي وهدم للمنازل.
فمن يقرأ للروائية دينا ويتابع رحلاتها الأدبية يرى صدق حروفها وتركيزها على الحس الإنساني، وما تقدّمه للإنسانية من حبّ ومحبّة يعتلي في روحها لذلك جاءت الرواية «ما دونه الغبار» مؤكدة على الآثار النفسية والاجتماعية والتراكمات للاحتلال على الفلسطينيين مع تسليط الضوء على تجربة الحياة اليومية تحت الاضطهاد، والإجراءات القمعية والصعوبات التي واجهها الفلسطينيون آنذاك وإلى الآن.
كما أظهرت الرواية رغم الغبارالذي دونته دينا في رحلتها التصميم والصمود في وجه الظلم والقهر وكيفية الحفاظ على الهوية الفلسطينية وأهمية الارتباط بالأرض المقدّسة والإرث التاريخي، ودفاع اللدّاويين المستميت عن مدينتهم، واستعرضت دينا المجازر التي ارتكبتها العصابات الصهيونية في مسجد اللد وتجميع الناس في كنيسة المدينة، والذين دفنوا أحياءً تحت ثراها ومن بقي بين الوجع والألم، بين الرحيل والحياة المريرة، وبين فكي الاحتلال.
ورغم كلّ الأحداث برمتها ظلت الروائية دينا مصرّة على تبيان الحياة بكلّ صورها الجميلة وإظهاردورالأم الشخصية المحورية في الرواية شهدنا كيف تطور دورها كراعية وحامية للعائلة في ظلّ ظروف الاحتلال القاسية. كما رأينا كيف تتحول من شخصية منكسرة إلى قوية ومقاومة ،ما يعكس صمود الشعب الفلسطيني، لأن المرأة الفلسطينية مقاومة حتى النخاع، رغم الدموع التي ترثي فيها أبناءها.
ومن خلال تطورالأحداث في الرواية لجأت دينا إلى لغة عربية تعجُّ بالحنين للوطن كما يعجُّ الغبار من أحداثها، ويفوح منها عبق السنين ليفور في تنور الأيام من تعدد الأمكنة، وتنوع الأزمنة، ورصد الشوق المشتعل للثم تراب الوطن حراً مستقلاً بأبنائه وأحفاده المتأثربالاحتلال، وكيف تطوروعيه السياسي لتزداد مشاركته في المقاومة ضد الاحتلال، وكأن دينا تستنهض النشىء الصاعد والأجيال الفلسطينية الجديدة للدفاع عن الأرض والعرض بملحمة لا مثيل لها من براثن الصهيونية بصور تصويرية رائعة.
إنها الروائية دينا قدّمت أجمل الروايات، وكتبت أحلى القصص، والسيرالذاتية بأسلوب أدبي شيّق ولغوي حافل بالمفردات يفوح منها عبق الوطن ،وكأنها تقول نحن هنا باقون كما بقي الزعتر والزيتون.
العدد 1200– 6-8-2024