الملحق الثقافي- كمال الحصان :
إن الحديث عن دمشق القديمة هو من الموضوعات الهامة جداً، والمستجدة ( مع الأسف ) على ساحتنا الثقافية، وذلك مقارنة مع آخرين سبقونا في هذا المجال، فقبل فترة قصيرة مثلاً، لم يكن أحد يلتفت إلى المدينة القديمة في دمشق، بأي معنى وبأي مضمون، ولم يكن أحد يهتم بما يجري لها أو يجري فيها، من تخريب عمراني أو تشوه وظيفي، أو استهتار برمزيتها المعمارية، وأكثرمن ذلك، فقد كانت النظرة إليها سلبية أو محايدة في أحسن الأحوال.
سأسمي ما سأذكره الآن حديثًا، لأنني إنما أكتبه، من خلال تناول الناس لشؤونهم وهمومهم المشتركة، لا سيما وأنه خلال السنتين الأخيرتين على وجه التقريب، بدأت دمشق القديمة تأخذ حيزًا معقولاً من النقاش والاهتمام من كثير من الناس، عشاق دمشق العروبة ومحبيها، والعارفين بمدى عمقها وتأثيرها وألقها في التاريخ منذ أكثر من عشرة آلاف ،وقد أدى هذا الاهتمام إلى بروز وجهات نظر معمارية وعمرانية وتنظيمية وتاريخية مختلفة، فالكل أدلى بدلوه حتى تشابكت الدلاء في فم البئر فكادت تغلقه، وبقي ماء الحقيقة محجوبًا عن عطاشه إلى حين.
أيًا كان مفهوم التراث أو تعريفه، فإن ما يصلنا منه، هو ما استطاع أن يبقى مع الزمن، يستمر أو ينقطع عند نقطة معينة، متطورًا لما هو أصلح وأجدى( وأما الزبد فيذهب هباء ) وقد يذهب التخريب والجهل بما هو أنفع أيضاً، وسواء كان هذا التراث مادياً أو معنويًا، والمعنوي بمعنى أن طرق الحياة، أساليبها وفنونها، يمكن أن تندثر أو تزول خلال مسيرة الحياة الإنسانية وذلك من خلال غربال التجربة والجدوى والنفع للإنسان والمجتمع.
إن الحفاظ على ما تبقى من التراث، ورعايته وترميمه، هو واجب وطني وقومي بكل المعاني، وهذا ليس لأسباب ومقاصد اجتماعية أو اقتصادية فقط، بل هو أيضاً من أجل أن نستمر في أداء دورنا كحلقة من حلقات التواصل الحضاري والإنساني في مسيرة الحياة البشرية، بحيث لا يعتريها الانقطاع على أيدينا، وتلك أمانة التاريخ ومسؤوليته عند الأمم الحية كأمتنا، ولأن الحضارات أيضاً، هي المجموع التراكمي لمختلف اشكال التراث في العصور المتعاقبة، وما فترات الانحطاط في مسيرة شعب من الشعوب إلاّ نتيجة حتمية ومباشرة للانقطاع في عملية التراكم الحضاري.
بين كل جيلين من الأجيال المتعاقبة، وعند كل مفصل زمني في حياة شعب من الشعوب تتشكل بحكم الطبيعة مجموعات « جسريه» مهمتها بناء جسور التواصل والتفاعل، بين تراث الأجيال السابقة واللاحقة، بكل وعي وإحكام ومهارة ومعرفة، جاعلة من هذا الوصل، أخذًا واعياً من روح الماضين دون تنكر ودون تناقض أو تنافر مع الحاضر ومفاهيمه ومستجداته وذلك أيضاً، بشرط أن يكون هذا النقل الحضاري، بعيدًا عن السقطات والنشاز والغرابة، إن جسر النقل والتفاعل هذا، هو مجموعة من المفكرين والمتنورين والعارفين النشطاء والمؤرخين، الذين قيّض لهم أن يتصدوا لحمل هذه الأمانة الوطنية والقومية، بدوافع إبداعية وأخلاقية، وهؤلاء هم سدنة الحضارة ونساكها وحفظتها في كل زمان ومكان.
يقول كتاب «قصة الحضارة» في وصف مدينة دمشق القديمة:
« ويقول المؤرخون إنه لم يكن في الإمبراطورية الرومانية كلها مدينة تفوق مدينة دمشق، في صناعتها ورخائها كان فيها الماء النقي والحمامات العامة الممتدة تحت الأرض والأسواق النظيفة والمرمر والهياكل والأروقة والأقواس والتماثيل وغيرها، وقد حولها نهرها العظيم نهر الذهب ( بردى) إلى مدينة غناء وارفة الظلال».
ويقول المؤرخ المقدسي في وصف دمشق القديمة أيضًا:
منازل دمشق فسيحة، وأكثر أسواقها مغطاة، ولها سوق مكشوف على طول البلدة وليس أعجب من فواراتها (الطوالع) أغلب دورها مبنية من الحجر و أكثر زخرفة من دور مصر، وإن كان الرخام بها أقل، إنما هو أحسن نوعًا، دمشق أحسن من سواها، وأكثر رونقاً لتحكم الماء عليها وتسليطه على جميع نواحيها، يستعمل في عمارتها خشب الحور بدلاً من خشب النخل إلا أنه يغشى بالبياض ويكتفي بحسن ظاهره.
وقال عنها أحد المؤرخين:
« لقد أثرت الهندسة الدمشقية في هندسة كثير من المدن ولا سيما « بيزنطة» التي أخذت عن دمشق صورًا كثيرة من البناء وأصبحت الهندسة والتصوير والنقش في دمشق، تسير في طريق مستقلة عن النماذج اليونانية والرومانية، التي كانت سائدة في مجال الأبنية النفيسة، وأصبح البناء الدمشقي يرفض وضع الملاط بين الأحجار، ويكتفي بحسن وضعها على صورة متوازية، تقوى بها دون لحمة بين أجزائها، واستعاض عن الآجر المألوف في عهد الرومان، بالحجر المنحوت وقليل من نماذج هذا البناء لا زال قائمًا في المدرستين العادلية الكبرى والظاهرية.
إن أقدم موقع معروف لدمشق في العصر الحجري هو موقع (تل أسود) الذي يقع في سهل يمتد جنوبي غربي بحيرة العتيبة كما دلت على ذلك أحدث الاكتشافات الأثرية، وفي الأخبار عن أهمية دمشق:
أن إبراهيم عليه السلام ولد في غوطة دمشق، في قرية يقال لها برزه، في جبل قاسيون وطبعًا هناك أقوال أخرى.
وعن النبي (ص) أن عيسى عليه السلام، ينزل عند المنارة البيضاء، من شرقي دمشق.
وأن مغارة الدم في جبل قاسيون كانت مأوى العديد من الأنبياء والصالحين والقديسين ومصلأّهم .
وأن فيها قبر يحيى وهناك عشرات الروايات التاريخية التي تؤكدها من أن دمشق هي من أهم الأماكن التي عاش فيها الإنسان عبر التاريخ وأقدمها.
جغرافيًا تقع دمشق بين سلسلة جبال لبنان الشرقية والصحراء وعلى ارتفاع يمتد من 1000-680 م عن سطح البحر عند نقطة تلاقي خط العرض 37 شمالاً وخط الطول 40 شرقاً.
اسم دمشق:
جاء في معجم البلدان لياقوت الحموي: دمشق الشام هي قصة الشام وهي جنة الأرض بلا خلاف.
وقيل أيضًا سميت دمشق: دمشقوا» في عمارتها أي أسرعوا.
وقيل أيضًا سميت دمشق كذلك باسم «دماشق بن قاني بن مالك بن ارفخشذ بن سام بن نوح «
وقيل أيضًا أن آدم عليه السلام كان ينزل في موضع يغرف الآن باسم (بيت انان) وحواء في (بيت لهيا) وكل هذه مواضع حول دمشق.
ودمشق كما هو معروف، هي أقدم عاصمة لا تزال معمورة، حتى الآن، فهي متحف في الهواء الطلق تلاقت فيها الحضارات والثقافات والمدنيات، منذ أول يوم في التاريخ المأهول ولا تزال مستمرة في فعل ذلك حتى يومنا هذا.
هذه هي بعض صفات وملامح وصور دمشق عبر التاريخ، مدينة غنية بالنفائس والدرر التاريخية مدينة تكاد تعكس صورة تاريخ العالم كله من أقصاه الى أقصاه، مدينة حملت عبء أيام العرب البيضاء والسوداء، بجلد وتضحية وعطاء لا مثيل له، ولدرجة بمكن القول معها حقًا، أنه لولا دمشق لما كانت طليطلة ولا زهت ببني العباس بغدان.
وستبقى دمشق عصية على العدوان، فمن له كل هذا التاريخ العظيم لا يقهره غزاة ولا عتاة وسيستمر تدفق ونهوض التاريخ الدمشقي في عروق الحضارة الإنسانية إلى الأبد.
كاتب وباحث
العدد 1200– 6-8-2024