الشاعر نزار هنيدي: الشعر تحريضٌ على الحريّة والجمال.. الشعراء سدنة الوجود البشريّ .. والإبداع الشّعري هو تجاوز ما أنجزه الآخرون
الثورة- حوار رنا بدري سلوم:
حريصٌ على مفردات الحياة التي يغسلها بإحساسه المرهف، متفرّد في صياغة عباراته، وهو منكبٌ على الأوراق يكتب نزيفه الخاص المتواشج مع آلام وآمال الجوهر الإنساني، نصوصه الشعريّة تفيض بجماليّات اللغة الرشيقة التي يتمحّصها كما لو كان في منجم لا يريد أن تفلت منه جوهرة، له عشرات الكتب في الشعر والنقد الأدبيّ النظريّ والتطبيقيّ، التي وضع بها بصمته الخاصة في تاريخ الفن الشعري السوري والعربي الحديث، منغمسٌ في الثقافة والحكمة والوجدانيات والتصوّف والآداب والعلوم والتاريخ، ليصوغ قصائد توائم وجوه الحياة وأمزجتها، وتبلسم جراح الروح، وهو الطبيب الجرّاح الذي يستأصل شأفة الألم، ويعيد تكوين الحياة برؤاه الجديدة، فاضت كلمات الشاعر الدكتور نزار بريك هنيدي في حوار خاص مع صحيفة (الثورة )، ليخصّص لنا من كرومه داليةً تعرّشُ في ذاكرة الشعر.
١- قلت يوماً، إن على الشاعر أن يعبّر عن تجربته بصوته الخاص، كيف يمكن للشاعر أن يحافظ على أصالة صوته الداخلي؟
– أعتقد أن الأساس الذي لا يمكن للنص الشعري أن يقوم دونه، هو أن يكون لدى الشاعر تجربة خاصة متميزة، يعيشها بكل تفاصيلها وتستولي على قلبه ونفسه، إلى الدرجة التي يشعر معها بضرورة خلق معادل موضوعي لها من الكلمات والنغمات والأخيلة، في سبيل هدفين رئيسين، أولهما أن ذلك قد يساعده في تخفيف حدة اللهب الذي يحرقه، بمدّ هذا اللهب خارج روحه، وسفحه على الورق الذي يكتب عليه، مما قد يتيح له أيضاً أن يفهم المزيد من غوامض التجربة التي يحياها، ويجعلها قابلة للمقارنة مع التجارب الأخرى، أما الهدف الثاني فهو أن ينقل هذه التجربة إلى الآخرين، ويشاركهم فيها، وبالتأكيد، فإن ذلك لا يمكن أن يتمَّ بشكلٍ فاعل، إلا إذا استخدم الشاعر صوته الخاص النابع من معاناته وتجربته، والحامل لنبرته وإيقاعه وملامحه الشخصية، وأعتقد أن السبيل الوحيد الذي يتيح للشاعر الاحتفاظ بأصالة صوته الخاص، هو أن يكون أميناً في التعبير عن تجربته، وحريصاً على التحدث بلسانه وحده، وأن يأنف من استعارة أصوات الآخرين، أو تقليدها، مهما كان السبب الذي قد يدعوه إلى ذلك.
٢- برأيك، هل يمكن للشاعر أن يقوم باستجداء الحالة الشعرية؟
– لا يمكن للحالة الشعرية التي تهيمن على الشاعر، وتفرض عليه الدخول في طقس الإبداع، إلا أن تكون ناجمة عن تجربة حقيقية قادرة على هز كيانه والسيطرة على أحاسيسه ومشاعره، لكن ليس بالضرورة أن تتعلق هذه التجربة بوقائع الحياة اليومية التي تطرأ على الشاعر، بل يمكن لها أن تكون ناجمة عن معاناته وهو يتعاطف مع موقف محدّد، لأحد الذين وقع عليهم ظلمٌ ما في الواقع الراهن، أو في التاريخ القريب أو البعيد، أو في عمل روائي أو مسرحي، وهناك بالتأكيد ما يمكن أن نسميها تجارب فكرية أو ذهنية أو جمالية، تتعلق بمعاناة الشاعر مع فكرة نظرية تؤرقه، أو معنى غامض يحاول سبر أغواره، أو صور تخيلية أو نغمات أو كلمات تطغى على نفسه، فيحاول مقاربتها، والتصالح معها، وتوظيفها بما ينسجم مع توجهاته ورغباته، وبالتأكيد، فإن الشرط الوحيد لتحويل هذه التجارب إلى حالات شعرية حقيقية، يكمن في صدق الشاعر في معاناته لها، واحتراقه بلهيبها، إلى الدرجة التي تفيض بها أحاسيسه ومشاعره، وتفرض عليه التجسد في نص إبداعي.
٣- قلت أكتب النقد من أجل إغناء تجربتي الشعرية؟ ماذا يضيف إليك نقد التجارب الشعريّة الأخرى، التفاعل العاطفي.. السجال.. الفكرة.. الومضة؟ وهل تقارن تجربتك بها؟.
– باعتقادي، أن أي شاعر لا بد له من أن ينضوي في إهابه على ناقد بصير، يعمل على استطلاع الإنجازات الجمالية والإبداعية التي يحققها الشعراء الآخرون، سواء كانوا من أترابه ومعاصريه، أم من العصور السابقة والثقافات المختلفة، لأن شرط الإبداع الشعري في نظري، هو أن يتمكن الشاعر من تجاوز كل ما أنجزه الآخرون، كي يحقق نصه الخاص، ويتجنب الوقوع في التقليد، ذلك أن أخطر ما يتهدّدُ النص الشعري، في رأيي، هو الوقوع في براثن التقليد، حتى لو كان هذا التقليد لأعظم شعراء التاريخ، بالإضافة إلى أن ممارسة العمل النقدي تفرض على الشاعر أن يتعرّفَ على الأفكار والنظريات الجمالية والنقدية، وأن يمتلك المعرفة اللازمة بأدواته الفنيّة، وحدودها وطاقاتها، وينتبه للإمكانيّات المتعددة لتحميلها وظائف جديدة، سواء على الصعيد الفني أم الإيحائي، ومما لا شك فيه، أن ذلك كله سيعمل على إغناء وتطوير تجربته الشعريّة.
٤- هل لعب اسم « نزار» دوراً في لفت الأضواء إليك كشاعر، وخاصة في المراحل الأولى من تجربتك؟ وهل شبه شعرك بشعر نزار قباني يوماً ؟
– لا أعتقد أنه يمكن للاسم وحده أن يكون له أي دور، ومع ذلك، فإن عدداً من النقاد حاولوا أن يعقدوا مقارنات بين شعر نزار قباني وشعري، فأشار بعضهم إلى أوجه التشابه، مثل الدكتور حسين جمعة الذي قال (كلاهما كان يبحث عن براءة الأسئلة في معرفة الذات والوجود)، بينما أشار بعضهم إلى الاختلاف والتجاوز، مثل الناقد الكبير الدكتور محي الدين صبحي، الذي قال إن شعري ( يؤرخ لبداية جديدة في الشعر السوري بعد نزار قباني).
٥ – متى ينكبُّ الشّاعر على الأوراق كمتصوّف؟ ومتى يستحضر ماضيه لإحيائه؟ وهل استقراء المستقبل يجعله نبيّاً؟
– ينكبّ الشاعر على الأوراق حين تضيق به سبل التواصل مع الواقع، ويتعاظمُ البون بين تطلعات روحه الشفافة ونفسه الرقيقة، وبين قسوة المحيط ورداءة مظاهره وبشاعة علاقاته، فينكفئُ إلى الأوراق محاولاً استقراء ما تتضمنه من سيرة الوجود البشري، وما تحتفظ به من زفرات وآهات وصيحات الإنسان خلال مسيرته الممتدة في الزمان والمكان، فالشاعر الحقيقي لا يقتصر اهتمامه على واقعه الراهن، بل يمثل صوت الجوهر الإنساني الخالد، وبالإضافة إلى ذلك، فإن الأوراق بالنسبة للشاعر هي الساحات التي تنتظر دخول كلماته إليها، طافحة بكل ما اختزنته ذاته الشاعرة من رؤى ومواقف، وبكل ما اضطرم فيها من لهيب الأحاسيس والمشاعر، وبكل ما اصطبغت به من ألوان الحزن والفرح، والخيبة والأمل، والنشوة والألم، وبذلك تكون علاقة الشاعر مع الأوراق أشبه بالعلاقة الصوفية فعلاً، أما فيما يتعلق باستحضار الشاعر لماضيه، فأعتقد أن كل ما مرَّ في حياة الشاعر من أحداث وتجارب ومواقف، لاسيما في طفولته وفي مراحل تكوينه الأولى، تبقى حية في عالمه الباطني، بل وتشكّل المنبع الذي يستقي منه صوره ورؤاه، وبالتأكيد، فإن الشاعر الذي يختزن في ذاكرته عذابات ومعاناة الجوهر الإنساني في عصوره جميعها، ويحمل تطلعاته وآماله وأحلامه، فإن استشرافه للمستقبل يقع في صميم الدور الذي ينتظره منه المتلقون، وهذا ما يفسر لنا التطابق بين صورتي الشاعر والنبي في كثير من ثقافات العالم.
٦- بعد سنوات طويلة وأنت في ميادين الثقافة والشعر والنقد هل تعوّل على الموهبة أم لا، أم على «صناعة الأدب»، أي هل تكون المتابعة المستمرة ضرورية لإنجاح التجربة الشعريّة؟
– مما لا شكّ فيه، أن الشاعر أو الفنان، يمتلك في الأصل، مجموعة من الخصائص، التي تتعلق بحساسيته الخاصة تجاه ما يحيط به وما يطرأ عليه، وبقدرته على استبطان الأمور ورؤية ما وراء الأشياء، وأيضاً بقدرته على التعبير عما يدور في أعماقه من عواطف وأحاسيس، وهذه الخصائص بمجموعها هي (الموهبة) كما أفهمها، وبالتأكيد، فإنه لا يمكن لأي إنسان أن ينتج نصاً شعرياً أو عملاً فنياً حقيقياً، إلا إذا كان يمتلك هذه الموهبة، أو هذه الخصائص، التي هي في حقيقتها، جزء من تكوينه البيولوجي والنفسي، إلا أن هذه الموهبة هي العتبة الأولى، التي لا بدّ للشاعر من أن يعمل على تجاوزها، باكتسابه للمزيد من الخبرات الفنية، وقيامه بالعديد من التجارب، التي تتيح له اختبار طاقات جديدة في الكلمات والأنغام، وتفضي به إلى خلق علاقات جديدة في تركيب الجمل والبناء الفني للنص، بالإضافة طبعاً إلى تعميق صلته بالأشياء وتعزيز معرفته بأحوال الحياة المختلفة، بل والعمل على وضع نفسه في خضم هذه الأحوال، كي يختبر مكابداتها ويرصد انعكاساتها على روحه وعلى ذاته الشاعرة. وبالتأكيد، فإن ذلك كله يتطلب من الشاعر اجتهاداً دائماً، وعملاً دؤوباً، كي يتمكن من إنتاج نصوص شعرية يمكن أن تعدّ إضافة حقيقية، أما التعويل على الموهبة الفطرية وحدها، فلن ينتج سوى المزيد من الركام، الذي لم يعد قادراً على تحريض حواس ومستقبلات المتلقي المعاصر.
٧- ماذا يريد الشاعر نزار بريك هنيدي اليوم من الشعر؟ وماذا ينتظر من الشّعراء؟
– مازال الشّعر بالنسبة لي الوسيلة الرئيسة التي تتيح لي التواصل مع مفردات الحياة وأشياء الواقع، وهو المفتاح الذي يفتح أمامي مجاهيل الوجود وأسرار النفس البشريّة، وهو الميدان الذي أتصالح فيه مع نفسي ومع أهوائي ونوازعي ورغباتي وعواطفي، عدا عن أنها اللغة التي أتواصل بها مع أحاسيس الآخرين ومشاعرهم، وتمكنني من دعوتهم إلى بساتين التأمل والدهشة، وتساعدني في تحريضهم على العمل في سبيل المزيد من العدل والحريّة والجمال، أما ما أنتظره من شعراء اليوم، أينما كانوا على وجه هذه البسيطة، وإلى أيّة ثقافة أو حضارة كانوا ينتمون، فهي أن يعملوا بإخلاص في سبيل أداء دورهم الرئيس، الذي يتجلّى في كونهم سدنة الوجود البشري، والناطقين الحقيقيين بصوت الجوهر الإنساني الأصيل .