الملحق الثقافي- عبد الحميد غانم:
سؤال مطروق ويدفعنا للبحث والدرس، لأن معظم ما لدينا من مخزون في تاريخنا لم نبحث أو ندقق أو حتى نعمل على تحقيق تاريخي منهجي مدروس ومنظم علمياً.
إعادة قراءة التاريخ ليست عيباً بل هي محاولة لقراءة أو فهم جديد لما حدث ولماذا يحدث؟.
التاريخ بمعناه الواسع، نتاج لتراكم الفعل الإنساني على مر الزمن، وهدف الدراسات التاريخية الحديثة ينصب على تحليل عناصر هذا التراكم ومكوناته، سعياً إلى فهم الحاضر واستشراف آفاق المستقبل.
ليس ثمة معنى للتعامل مع التاريخ بمفهوم الحكاية ومنطق السرد، أو اعتبار المعلومات التاريخية.
عناصر التاريخ وأغراضه عناصر التاريخ الأساسيّة في مفهوم ابن خلدون هي: الإنسان، والماضي، والتقلّب في الزمن، وهي العناصر المشابهة لمفهوم الباحثين السابقين، وزاد ابن خلدون على ذلك: التعليل، والتفلسف، واكتشاف الأسباب.
والغرض من التاريخ في مفهوم ابن خلدون هو ضرب الأمثال، والوقوف على تقلّب أحوال الناس، وتعليل سبب وقوع الأحداث السابقة، وتناول المجتمعات الإنسانيّة جميعها على اختلاف العصور، والبلدان، ولقد اعتمد ابن خلدون على التاريخ باعتباره معرفة وفنّاً، وظهرت المعرفة في التعرّف على أحوال الأمم السابقة، والإخبار عنهم، حيث إنّ العلم بالكيفيّات والأسباب هو من أنواع المعرفة، وأّما اعتماد التاريخ فنّاً فيقصد به حرفة التاريخ، وصنعته، وقد اشتملت مقدّمة ابن خلدون على قوانين تاريخيّة مشابهة للقوانين الطبيعيّة، مثل قانون السبب والمسبّب، وقانون الاستحالة والإمكان، وقانون التشابه والتباين.
ومن أسباب أخطاء المؤرخين في نظر ابن خلدون الاعتماد على النقل فقط، ولم يأخذ المؤرّخون طبيعة العمران، والأحوال في المجتمعات، وقواعد السياسة، وأصول العادات بعين الاعتبار. وعدم قياس الحاضر بالماضي، والغائب من التاريخ بالشاهد عليه. وعدم تنقية الأحداث التاريخيّة من الأخبار الكاذبة، وتحرّي الصدق فيها.
فضلاً عن البعد عن أخذ التبدّل في الأمم والأحوال، واختلاف الأجيال عند النظر إلى التاريخ. والابتعاد عن الموضوعيّة، والتحيّز لمذاهب وآراء معيّنة، فعند الحديث عن تاريخ الأمم والمذاهب التي يتحيّز لها المؤرّخ، يشرح الوقائع بالتفصيل والإمعان، وعند ذكر أمور لا يهتم لها المؤرّخ يكون الحديث مختصراً، ولا يتحرّى الدقّة.
كذلك ميول بعض المؤرّخين للتقرّب من أصحاب السيادة والمراتب الرفيعة، فتظهر أخبار لا تمتّ للحقيقة بصلة، تكثر من المديح والثناء على أصحاب المراكز العليا.
يبدو أن موضوع «إعادة قراءة التاريخ» من الموضوعات الشائكة والمعقدة، لأنه يصعب الإلمام به بسهولة ويتطلب الكثير من البحث والدراسة والمعرفة العميقة لكيفية قراءة أحداث التاريخ ومدى إقحام التأويلات التفسيرية لتلك الأحداث، وألا يتم إقحام الأيديولوجيا المذهبية في متن أو هوامش إعادة كتابة التاريخ.
ومصطلح «إعادة قراءة التاريخ» ولجته تيارات كثيرة، بمختلف مرجعياتها الفكرية، سواء أكانت مرجعيات ذات منطلقات دينية، أم مرجعيات ذات منطلقات ورؤى علمانية، أم كانت ذات منطلقات ورؤى تنويرية تقدمية، أم كانت ذات منطلقات ورؤى وتطلعات فلسفية. كل هذه التيارات تُقدم تفسيراً وقراءةً لمصطلح «إعادة قراءة التاريخ» من خلال بيان معنى التاريخ وما يُقصد به، ثم تقدم المسوغات لإعادة قراءة هذا التاريخ، الذي فسرته من خلال إسقاط رؤيتها ومبادئها، التي تؤمن بها وترى الحياة وصروفها من خلالها.
الدعوة إلى إعادة كتابة التاريخ وقراءته على نحو جديد يراها الرافضون مقولة خاطئة وخطرة، وتشكيكاً في تاريخ الأمة وتراثها، وإخلالًا بمنطق العقل السليم.
ثم بعد هذا، وعلى الرغم منه، يسمي الرافضون أنفسهم دعاة صحوة وتجديد، وكأن قواعد المنطق السليم أن تُحافظ على القديم شكلًا ومبنى، وتلتزم به قالباً وتقليداً، ثم تكون في آنٍ مجدداً. وليس ما أقصد إليه النقيض.
أعني رفض القديم، ولا التشكيك فيه غاية وهدفًا؛ فإن القديم كان له عصره وأهله وقضاياه، ونحن نحمله وزرًا أو فضيلة، ولن نعود إلى الوراء به وله، والرفض ليس من حقنا، ولا سبيل إليه لأنه بعض نسيجنا، مثلما أن الخضوع أو التبيعة ليس واجبنا ولا نهجنا. ولكنَّنا نريد القديم الحي المختار عن وعي وفعالية اتساقًا مع واقعنا نحن، وعصرنا نحن، لنصنع به حياتنا نحن، على نحو ما نرى نتاجاً إبداعيّاً.
العدد 1201 – 13 -8-2024