ذاكرة.. حنا مينة: اللاذقية مدينتي وبحرها شراييني …

الملحق الثقافي:                    

مرت ذكرى وفاة الروائي الكبير حنا مينة بصمت، فلا استعادة لأي شيء مما كتبه ولا حتى ذكر في وسائل الاعلام، والكل مقصر في هذا الأمر، ومن باب الوفاء لذكرى الكاتب الكبير نقدم في صفحة الذاكرة هذه المحطات التي كانت عام 2005 م وقد نشرت في جريدة الثورة، قدمتها الزميلة ابتسام ضاهر من خلال متابعتها للحدث الذي كان احتفالاً به
فبحضور لافت بأبهى صورة وبفرح البحر اللاذقاني احتفت جامعتنا الأوغاريتية بالكاتب المبدع حنا مينة هذا الجبل الأدبي الذي توازي قامته السامقة قمة جبل صنين، والذي أصبحت رواياته شاهداً على عصره ومحطات بارزة ومهمة في تاريخ أمتنا المعاصر، نقرأ فيها تاريخاً طويلاً كتبه بمرارة التجربة العميقة ورصد فيه تحولات هذا المجتمع منذ الثلاثينات وحتى يومنا هذا وترجمت رواياته إلى لغات عالمية وأصبحت مقررات دراسية في جامعات عربية وغربية.
وأكثر ما يميز هذه الكتابات حبه وعشقه لللاذقية وبحرها الذي كان رفيقه وملهمه وعبر عن ذلك في بداية حديثه بقوله: لا أذكر في أي كتاب وردت هذه العبارة : أمنيتي أن ينتقل البحر إلى دمشق أو تنتقل دمشق إلى البحر لكنني أذكر منذ وعيت الوجود أن البحر أعطاني ماءه الأزرق دماً في شراييني.
البحر ملهمي، فلحمي سمك البحر ودمي ماؤه المالح
البحر مصدر إلهام كاتبنا الكبير فهو مسكون بعشقه الأبدي له وطالما تغنى به وتحدث عن عشقه له فيقول: حتى إن معظم أعمالي مبللة بمياه موجه الصاخب، وأسأل هل قصدت بذلك متعمداً؟ فأقول: في البدء لم أقصد شيئاً، لحمي سمك البحر ودمي ماؤه المالح، صراعي مع القروش كان صراع حياة، أما العواصف فقد نقشت وشماً على جلدي إذا نادوا يا بحر: أجبت أنا البحر أنا فيه ولدت وفيه أرغب أن أموت.
وأشار الكاتب إلى أن حبه للبحرلا يحتاج إلى شهادة محبوب، كتبي هي شهادتي غير أن البحر محبوب لا يبقى في المطلق إنه في ذاتي ظرف مكان وزمان المكان، هو اللاذقية والزمان تلك السنوات الممتدة بين هجرة عائلتي من لواء اسكندرون 1939 وبين هجرتي من اللاذقية إلى دمشق عام 1948
اللاذقية المحطة الحياتية الأهم في حياتي
يتابع أديبنا الحديث فيقول: إن تكوين الإنسان تدخل في نسيجه عناصر كثيرة لكنها على كثرتها محددة، أما استمرارية هذا التكوين فإنها تستغرق العمر كله وهي اذاً نهر بغير حدود، غير إن لها محطات حياتية لا تقل في أهميتها عن المنعطفات التاريخية لكوننا الأسطورة، وفي هذه الأسطورة كانت المرأة بداية بغير نهاية وستبقى كذلك، ولكن قياساً يمكنني القول إن اللاذقية كانت لي المحطة الحياتية الأهم والأغنى والأنفذ بتأثيرها الذي كان حاسماً بين ما قبل وما بعد باعتباره تكويناً جسدياً ونفسياً تخلقت به سلوكياتي وتشكلت خلاله معارفي المتحصلة من الكتب والناس، ومن هذه المعارف أخذت مفهومي الفكري عن التاريخ والمجتمع وما فيهما من جدلية الفلسفة، ومنها أيضاً أخذت شفاهي وبراعتي.
هذا هو الجانب العقلي المحكوم بالمقدمات والنتائج في إطار علاقة الكاتب حنا مينة باللاذقية، أما عن الجانب الروحي الذاتي الملتهب المتمرد على كل القوانين وكل مساطر القياسات الهندسية فإن حبه لللاذقية يتعرف عليه من خلال المساحة الصغيرة بين سروتين في مقبرة الفاروس التي ستضم رفاته وحيث سيظل مسكوناً بعشق جارة البحر هذه حياً وميتاً ويظل صبا الروابي الخضر يهدهد أوراق السروتين.
اللاذقية، مدينة المدن، حبي وذاكرتي ووجودي
يعترف أديبنا الكبير بأن اجمل ما في الحب هو الإمساك عن الكلام عليه وترك التعبير لومضة العين وحرارة اليد وتمسيد الشعر، غير أن حب اللاذقية كان حبه الأبلغ، كتبه على جبينه وصدره وعنقه وأصابعه، وكتبه أيضاً على أحجار القلعة وخضرة المنشية ورمل الشاطئ وبياض النوارس وفي كل حي وشارع ودرب وبيت ومقهى، كما كتبه على ملاحات النساء وشمائل الرجال ومحافظ الأطفال .. وكل هذا الحشد من المخلوقات الأدبية التي فردوسها وجحيمها أيضاً صحائفه وذكريات شبابه ويتابع الأديب بقوله إنما المدن كالنساء فنحن لا نستطيع مهما وهبنا نساء العالم حبنا الذي في سعة الفضاء إلا أن نهب حبنا الحقيقي لامرأة بعينها امرأة الدهور حسب تعبير اراغون وكذلك حين نهب المدن حبنا لا بد أن نهب مدينة بذاتها حبنا الكبير لأنها مدينة المدن في ذاتنا عاشت وفي تعسنا كانت نسغاً باقياً، وأما المدينة التي اصطفيتها معنى ونجوى وذاكرة ومنحتها تياراً وتكرمة فهي مدينتي لاذقيتي وغداً سيكون في وسعي أن اودع مدينتي قائلاً يا لاذقيتي الحبيبة لقد فعلت كل شيء لإسعادك بسبب أنني حققت مع زملائي من الأدباء والفنانين القليل من العدالة الاجتماعية هذه التي تبقى أزلاً أبداً إحدى الأمنيات في الطرح الصحيح الصادق للقضايا التي علينا أن نطرحها وأن نستأنف لأجلها، وما الفن إلا استئناف ضد ما هو كائن من أجل ما يكون، وهو الأفضل دائماً.
حبي للحرية المقدسة والعدالة والسعادة أزلي
وعن تجربتة في الحياة وجوعه للحرية يقول: أرغب أن تعرفوا أنني حيث المغامرة اكون، وأنني أفضل العيش على حافة الخطر، وأنني خريج سجون لا مدارس وجامعات، وأني في المنافي تقلدتني الليالي وهي مدبرة، ولكنني أبداً لم أكن صارماً في كف منهزم، وأنا الحلاق في حي القلعة كنت أجيراً، وكنت كذلك بحاراً ورأيت الموت في اللجة الزرقاء ولم أهبه لأن الموت جبان فأنا ولدت وفي فمي هذا الماء المالح، لكنه هذه المرة كان ملح الشقاء وملح التجارب وملح العذاب جسدياً وروحياً في سبيل الحرية المقدسة صبوة البشرية إلى الخلاص، ولذلك كان بديهياً أن أطرح منذ وعيي الوجود أسئلتي على هذا الوجود، وأن أتعمد في البحر بماء العاصفة وأن أعاني الموت كفاحاً في البر والبحر معاً، وما الحياة قولة الطروسي بطل الشراع والعاصفة إلا كفاح في البحر والبر وبغير انقطاع لأن ذلك قانوناً من قوانين الطبيعة أمنا جميعاً، ولقد كان طريفاً قبل أن أتعرف على الفلسفة مادية ومثالية من الكتب أن أعرفها من الناس والبسطاء خصوصاً، وأنا أدخل البحر لا من الشاطئ كالآخرين بل من اللجة رأساً حيث ألقيت ومصادفة أوعمداً في مائها وأنا طفل لم يتعلم السباحة ولا جربها قبلا.
وتحدث مبدعنا عن كيفية حدوث ذلك وعن مكان تعرفه إلى الفلسفة والبحر، فهذا الأمر من وقائع وغرائب الحياة التي عاشها والتي بدأت من خلال تكرار حكاية البحث عن الرغيف حين بدأ في الثانية عشرة من عمره بعجن الصخرة الملعونة ليصنع منها كسرة الخبز، ومن ثم أصبح كاتباً لرسائل الحي التي كانت مبللة بالدمع والشكوى وما الفقر وهذا ما أثبتت في نفسه في تلك الطفولة المبكرة حباً لا ينتهي للعدالة و للسعادة والفرح، وبعد شهادته الابتدائية الوحيدة عمل أجيراً عند صاحب دكان لتأجير الدراجات، وكان أمياً ومن خلال قراءة بعض النشرات له قرأ فيها ولأول مرة ( كلمة فلسفة) ومن ثم سبح في مياه الغربة طويلاً فمن بكين إلى طوكيو ومنها إلى نيويورك إلى مكسيكو ولندن وباريس وبون وبودابست كلها بعض من ملاعبه وبعض دمه.
كما في رواية حمامة زرقاء في السحب
الكاتب هو من امتلك معلمية الكتابة
يتابع الكاتب حديثه بإجابته للذين يقولون له ما شأنك والشعر وأنت الناثر الروائي والقائل إن الرواية ستكون ديوان العرب بقوله:
إن النثر بغير الشعر لا يكون، والشعر بغير النثر لا يكون، وهذا كتاب الأغاني لأبي فرج الأصفهاني الذي في نثره اعتمد الصوت الشعري فكان مجلياً في الاثنين، فبعض الزملاء يكتبون النثر دون إلمام بالشعر والبعض الآخر ينظم الشعر دون إلمام بالنثر وفريق ثالث لم يقرأ إلا القليل من نثر أبي حيان التوحيدي ولم يبدأ إلا قليلاً بشعر قيس بن الرقيات، وليس في هذا مأخذ أو عيب فلكل منا ثقافته وطريقته في التعبير إنما العيب في وضع الإصبع على الدماغ والتساؤل: ماذا تكتب لأن الكتابة بغير تجربة بغير معاناة بغير معرفة دقيقة بالبيئة وبغير امتلاك معلمية التسويق معلمية التوصيل إلى القارئ تبقى شوهاء.
وإنني لست أفضل من غيري، لكنني اوسع انتشاراً من ذوي الدم البارد الذين يجلسون على الأرائك الفخمة وينامون على الاسرة الوثيرة وليس عندهم حدث ما أو تجربة ما ومع ذلك يكتبون ويكثرون من الكتابة، وكما قال الجاحظ راضون عن أنفسهم كل الرضى.
وفي نهاية المحاضرة شكر أديبنا الكريم البادرة الطيبة التي بادر بها السيد الرئيس بشار الأسد غير المسبوقة والتي قد تكون غير ملحوقة أيضاً بمنح وسام الاستحقاق من الدرجة الممتازة ومعه مبلغ من المال للمبدعين من الأدباء لدورات ثلاث حتى الأن وتمنى أن تتابع وتستمر وختم حديثه بقوله: ثمة فلسفة وأدب وفن واستقرار وكتابة مع السلطة وأخرى في تعارض معها أو ثمة استئناف ضد الواقع بصرف النظر عن هذا النظام أو ذاك فمع من نحن؟ إنني أسأل وغاية الكتابة طرح الأسئلة دون غمغمة أو مهما تكن النتائج ودون الاختباء وراء الأصابع مهما تكن الدوافع أو الظروف.

الكتاب خير جليس
وفي ختام اللقاء انتقل الأديب الضيف للرد على تساؤلات الحضور فأجاب عن ما إذا فقدت ثقافة الكتاب شيئاً من ألقها وسط هذا الجو المعرف بقوله: قد أكون مخطئاً ولكن باعتقادي إن الكتاب سيبقى خير جليس وأنيس مع المسافر في الطائرة والباخرة وفي النزهة وفي أكثر الأماكن، فيقال إنه ليس هناك من قارئ ولكن أقول: إن شعبنا العظيم يقبل على شراء الكتاب رغم حاجته إلى الرغيف، ولكن المسألة تبقى من هو الكاتب، هل الكاتب القادر للوصول إلى القارئ وطرح همومه ومشاكله؟ فإن وجد هذا الكاتب القادر على التوصيل والتشويق والإيقاع إلى القارئ سيجد من يقرأه ولكن ليس بالكثرة السابقة ولكن بشكل مقبول.

الثقافة العربية وواقعها بخير
وحول واقع الثقافة العربية يقول: برأيي الثقافة في سورية ووطننا العربي بخير لأننا منذ نصف قرن لم يكن لدينا من يكتب الأبحاث والدراسات حول الفكر والعقل ولهذا الثقافة بخير، ولكن علينا أن نزيد الخير خيراً وأن نتابع الثقافة، وأنا أقول لا يمكن أن يكون هناك نصف كاتب او نصف فنان أوأديب، فلكي تكون كاتباً عليك أن تدرك معلمية الكتابة ولكي تكون فناناً ان تمتلك معلمية المهنة.

        

العدد 1206 –24-9 -2024      

آخر الأخبار
"الإسكان" تحدد استراتيجيتها الوطنية حتى 2030..  مدن متكاملة ومستدامة وآمنة ومجابهة للتغيرات المن... أمام اختبار التدفئة المركزية.. طلاب الثانوية المهنية الصناعية: سهل وواضح "التحول الرقمي".. ضرورة ملحّة في ظلّ تضخم النظام البيروقراطي استمرار الاستجابة لليوم السادس والنيران تصل الشيخ حسن في كسب  "بسمات الأمل".. رحلة الدعم في قلب سوريا الجديدة  720 سيارة سياحية من كوريا الجنوبية تصل مرفأ طرطوس.  المستقبل يصنعه من يجرؤ على التغيير .. هل تقدر الحكومة على تلبية تطلعات المواطن؟ الخارجية تُشيد بقرار إعادة عضوية سوريا لـ "الاتحاد من أجل المتوسط" فرق تطوعية ومبادرات فردية وحملة "نساء لأجل الأرض" إلى جانب رجال الدفاع المدني 1750 طناً كمية القمح المورد لفرع إكثارالبذار في دير الزور.. العملية مستمرة الأدوية المهربة تنافس الوطنية بطرطوس ومعظمها مجهولة المصدر!.  السيطرة الكاملة على حريق "شير صحاب" رغم الألغام ومخلفات الحرب    بين النار والتضاريس... رجال الدفاع المدني يخوضون معركتهم بصمت وقلوبهم على الغابة    تيزيني: غرف الصناعة والتجارة والزراعة والسياحة كانت تعمل كصناديق بريد      تعزيز التعاون في تأهيل السائقين مع الإمارات بورشة عمل افتراضية     الإبداع السوري .. في"فعالية أمل" ريف اللاذقية الشمالي يشتعل مجدداً وسط صعوبات متزايدة وزير الطاقة: معرض سوريا الدولي للبترول منصة لتعزيز التعاون وتبادل الرؤى بطولات الدفاع المدني .. نضال لا يعرف التراجع في وجه الكوارث والنيران  وزير الطاقة يفتتح "سيربترو 2025"