الملحق الثقافي- نداء الدروبي:
أنور أرناؤوط واحد من الفنانين التشكيليين المؤسِّسين في سورية، عبَّر بريشته البديعة الدقيقة وألوانه الحيَّة ذات الدرجات النضرة، التي لا تخلو من بعض اللمسات التعبيرية النابضة بالمشاعر والأحاسيس تجاه المناظر الخلوية الساحرة.
ولد الفنان الكبيرأنور أرناؤوط في مدينة دمشق، ودرس الرسم دراسة خاصة، ثمَّ بدأ مشواره الفني أثناء دراسته الثانوية، ولقي من والده وأساتذته تشجيعاً كبيراً دفعه للاستمرار، فتطوَّرفنه نتيجة متابعة المعلمين في المدرسة له، مثل الفنان: (بريتي)، وهو أحد الأساتذة الفرنسيين الوافدين وقت الانتداب إلى سورية، أيضاً من خلال متابعة ومرافقة من مُدرِّسه الكبير توفيق طارق في جولاته الفنية، التي كان يشاركه فيها بعض المتحمِّسين للرسم. ومن خلال المعلومات التقنية التي قدَّمها الرسام (رولا) في المدرسة الإيطالية بدمشق، ونتيجة الاحتكاك بزملائه من فناني تلك الفترة، إضافةً إلى الملاحظات التي كان يتلقَّاها من والده وأصدقائه.
انتمى أرناؤوط إلى الاتجاه الواقعي الأكثر انتشاراً بين فناني جيل الروَّاد، ولعله كان الأكثر تشدُّداً بينهم إلى حدِّ مقاطعته في المعارض الجماعية خلال العقود الثلاثة الأخيرة من حياته، إذ احتجَّ على انتشارأعمال المدارس الحديثة وطغيانها على الواقعية في المعارض، ما ترك مجالاً ضيِّقاً للواقعية كي تُقدِّم نفسها، وتأخذ المكان الجدير بها. وقد تأثَّر أنور بالمدرسة الروسية البيزنطية عن طريق سابقيه ومن خلال دراسته. ويُقال: إنَّ والده محمد علي أرناؤوط وصديقه عبد الحميد عبد ربه درسا في مدرسة الفنون الجميلة العليا باستانبول، وتتلمذا على يد الفنان الروسي عيوا زوسكي»، كذلك تأثَّر أنور أرناؤوط بالمهندس عارف بيك، والضابط الأرناؤوطي خليل باشا عقرانية، الذي كان لواءً ومن أصدقاء والده، ويتردَّد إلى بيته، فكان ينبِّهه لنقاط الضعف في رسومه البدائية آنذاك.
وفي بداية حياته الفنية نفَّذ مع الفنان عبد الوهاب أبو السعود بعض الرسوم السريعة لحالات شعبية، ونقل صوراً لوجوه عن رسوم الفنان التركي «يشار» إلا أنه توقَّف عن تصوير الأشخاص امتثالاً لرأي والده؛ ولا نعثر الآن على أيٍّ من صور الأشخاص.. فيما عدَّد من لوحاته التي تُصوِّر الأحياء القديمة في دمشق ومشاهد الأولياء، والبيوت، والطبيعة في الريف الجميل، وفي حوران خلال تواجده فيها كمدرِّس، مع أنَّ بعض النصوص تعتبرأنورالأرناؤوط امتداداً لاتجاه أستاذه توفيق طارق ذي الأسلوب الواقعي مقابل اتجاه ميشيل كرشة صاحب المذهب الانطباعي باعتبارالحدود بين الاتجاهين لم تكن واضحة دائماً، حيث اهتمَّ الفنانون من كلا الاتجاهين بالمشهد الطبيعي، وجنح أكثرهم للتبسيط والاختزال، سواء باختيارهم أم حكماً لإمكاناتهم، ولهذا لا نستطيع إلا أن نلحظ التمايز بين فناني جيل الروَّاد. إلا أنَّ الأمرالجدير بالاهتمام والتقدير أنَّ معظمهم قد التقط ببراعة المناخ اللوني المحلي وخصوصية البيئة، ومنهم: أنورالأرناؤوط الذي تحدَّث عن تجربته أواخر عام (١٩٨٦) قائلاً:
-(أنا من فناني المدرسة الواقعية، تلك التي تصوِّر الواقع بجماله التاريخي وروعته وبساطته وسحره، ولأن الحضارة والمدنيَّة الحديثة قد خطت خطوات مُتقدِّمة بالإنسان إلا أنها أبعدته عن عفويته، وعن جمال التكوين الأول، إنساناً وطبيعةً، كما أبدى امتعاضه في كثير من المواقف عام (١٩٥٧) في معارضته للمدارس الفنية الحديثة، كما يجب أن تُفهم فجعلته ستاراً لجهله الفني أو ضعفه (بمعنى أوضح).
يرى عبد القادر أرناؤوط أنَّ عدم تعلُّم أنور الفن في أكاديمية رسمية، واعترافه الدائم بحاجته إلى الأصول التقنية قد أدَّيا إلى عدم تسليط الأضواء على عمله، وأثَّرا في الحدِّ من إعلاء صوته في مقارعة أنصار المدارس الحديثة، فاكتفى باحتجاجه الصامت، المتمثَّل في عدم المشاركة بالنشاط الفني العام، والاعتماد على المعارض الشخصية بين الحين والآخر.
ومن أعماله أيضاً مشهد تاريخي في الأربعينات، وهي التربة الحافظية «ستي حفيظة» في الطريق ما بين المزرعة والميسات، حيث كانت تتواجد في تلك المنطقة مجموعة مبانٍ أثرية مثل: ترب ومدارس، كالبدرية، والشبلية، والقمارية.. أُزيل بعضها مع التغييرات الحاصلة في المنطقة، وهي الآن مقر الجمعية الجغرافية في دمشق، وتعتبر من اللوحات التي نالت إعجاب الجمهور.
وفي الماضي كانت دمشق العثمانية باعتبارها مركز الولاية حتى عام (١٩١٨) تحتضن مسؤولين وعاملين في الإدارة من مختلف أرجاء الدولة العثمانية، إذ استقرَّ بعضهم هناك، وبرز أولادهم في الحياة الثقافية السورية الجديدة، سواء خلال الحكم الفيصلي (١٩١٨- ١٩٢٠)، أو خلال الانتداب الفرنسي عام (١٩٢٠- ١٩٤٦)، وكان من هؤلاء بعض الأشخاص الذين جاؤوا من ألبانيا للخدمة المدنية أو العسكرية في مركز الولاية، ثم استقروا في دمشق، حيث وُلد ونشأ أولادهم الذين كان لبعضهم ريادة في الحياة الثقافية، مثل:معروف الأرناؤوط (١٨٩٢- ١٩٤٨)، ويعتبر من روّاد الرواية بعدما نشر (سيد قريش)، ثم أنور أرناؤوط رائد الحركة الفنية في سورية.
ولد أنور لأب ضابط مثقف.. درس الفن في استانبول هو محمد علي أرناؤوط، المتخرِّج في مدرسة اللاييك التي صقلت مواهبه الفنية، واستفاد أنورأكثر من المنزل الذي كان بمثابة المدرسة، إضافة إلى ملاحظات الفنان عبد الحميد عبد ربه الذي كان من رواد الحركة الفنية في سورية، وبعد تخرُّجه في المدرسة اشتغل فترة بالتدريس في حوران، حيث أثَّرت إقامته هناك في تعلُّقه بالطبيعة، وبرز هذا في لوحاته الأولى؛ لكنه سرعان ما تخلَّى عن التدريس لينضمَّ إلى المديرية العامة للآثار والمتاحف.
شارك أرناؤوط في المعارض الفنية الأولى المنظَّمة في دمشق، ومنها معرض: ( نادي يقظة المرأة الشامية)، ومعرض ببناء الحقوق (١٩٤٢)، وآخر في معهد الحرية (اللاييك)، ومعرض رابطة الفنانين، كما حصل على ميدالية تقديرية في معرض مهرجان القطن بحلب عامي (١٩٥٩- ١٩٦٢)، كما عُرضت أعماله في المعارض السورية المتنقِّلة بالخارج كمعرض (مؤتمر الشباب العالمي) في موسكو، إذ حصل على ميدالية تقديرية وبينالي الإسكندرية، وهناك أيضاً حصل على ميداليتين في عامي (١٩٥٥- ١٩٥٩)، ومعرض (الفن السوري المتنقِّل) في دول أوروبا الشرقية.
ركَّز في أعماله على الظل والنور المتماهي مع الطبيعة برقة وتناغم، وأحياناً في أجواء تعبيرية أو انطباعية. وفي بعض اللوحات استخدم التباين القوي، وأضاف كثيراً من مشاعره كي يوحي بالإحساس المطلوب.
وفي لوحات أخرى بسَّط الأشكال بقليل من ضربات الريشة، فرأينا المنظر الطبيعي وكأنه يسبح بين الظلال، وأحياناً أضاء نور السماء المنظر الطبيعي فرأينا الأشجار الباسقة وأغصانها الجميلة.
إنه الفنان القديرأنورأرناؤوط الذي فقدته الحركة التشكيلية السورية في دمشق عام (١٩٩٢)، وبقيت أعماله باقية في وجداننا.. ولن تُمحى مع مرور الزمن.
العدد 1206 –24-9 -2024