الملحق الثقافي- نجاح الدروبي:
بإباء النبلاء ومروءة الفرسان اتسم الوجدان السوري النقي، المدافع عن أرضه اليانعة التي تحكي قصة الينابيع وهمس الغصون للنسمات.. إنها لوحة من الفجر والليل ونار الأصيل المشتعلة في وجه الغريب، فالمحن دفعت أبناء الأرض للمقارعة وليس للنواح لدرجة أتعبوا المحتل وكسروا شوكته في حرب تشرين التحريرية مولد المجد والفخار، لذا كتب نزار قباني قصيدته الشهيرة (ترصيع بالذهب على سيف دمشقي)، وما فيها من معان وحشد إبداعي، كما صدرت عقب الحرب مباشرةً ثلاث مجموعات قصصية هي: (مَنْ يذكر تلك الأيام لحنا مينه والدكتورة نجاح العطار، الدم والرصاص لعبد الفتاح رزق، الرفاعي، وحكايات الغريب لجمال الغيطاني)، ثمَّ تحوَّلت بعض الأعمال لأفلام تلفزيونية لاقت نجاحاً كبيراً ككتاب (نقش على بردية العبور) للشاعر أحمد الحوتي، وهو مزيج من النثر والشعر، ورواية لرضا صالح بعنوان (فضاءات مدينة).
وكلنا يعلم أنَّ القلم يتعانق مع البندقية في الحرب، لذا يتحَّد إقدام الجندي مع جموح خيال الأديب، فيغدو الأدب صنو القتال محفزاً للمعركة حين اشتعالها ومؤرِّخاً مصوِّراً لها بعد انقضائها.
أما القصص الأخرى التي كتبت من وحي روح تشرين فمنها: قصة (السمكة الطائرة) التي مزجت بين القص والتسجيل والرؤية من زوايا متعددة، وصوَّرت معارك الطيران العربي السوري خلال حرب تشرين من خلال وصف تسجيلي لتلك المعارك الجوية الرائعة.
ومنها أيضاً مجموعة مشتركة بعنوان: (من وحي أكتوبر) لصلاح ابراهيم السيد وعزيزة صادق، وبعض قصص مجموعة (حكايات الحب اليومية/ للدكتور نعيم عطية).
كما نظم الشعراء نصوصاً مُرصَّعة بالذهب على سيف دمشقي ترقى لأصوات مدافعي الحق في تعبير وجداني صادق يدخل لوتين القلب، وصوَّروا مناحي الحرب الدائرة أمامهم، فالشاعر نديم محمد شهد انتصارات تشرين التحرير وهو في طرطوس ووصف سقوط طائرة فرعون في البحر، وذلك بعد إصابتها بصاروخ فتغمره الفرحة، وينشد:
شيطانة وحش يهيج زنبرها
خوف الرياح فما تريد هبوبا
ترقى وترقى مارداً متشهقاً
تطوي جوانحها الرحاب وثوبا
فهوت مقطعة الوتين مهيضة
وانحط منها ربتها مكبوبا
لأني رأيت النار تأكل قلبها
والبحر يشربها دماً ولهيبا
ولطالما قضى حنا مينه وقتاً طويلاً يبحث ويقرأ ويقابل شهود عيان قاتلوا في تلك الحرب حتى يكتب رواية ذات تصوير شاهق دقيق ومفصَّل لحرب لم يحاربها الرجل بنفسه، ولكنه وفّق في إتمام صفحاتها التي ربت على المئات الثلاث في نقل صورة قلميَّة بديعة للحرب، تحدَّث فيها عن مشاعر مقاتليها.. عن توقهم للتحرُّر من الهزيمة.. روحهم المعنوية العالية، كما تحدَّث عن لحظات خوفهم.. إقدامهم.. صحوتهم ولحظات أحلامهم الغارقة في تفاصيل حياتهم الإنسانية.. كذلك وُفِّق في وصف معارك البحر.. معارك الجو.. معارك الدبابات والمشاة ضمن بيئتها الجغرافية والأسلحة المستخدمة فيها؛ وكلّ ذلك لا يتأتَّى لكاتب جالس أمام مكتبه بل يحتاج لمطالعة في الزمان والمكان ووقوف على المواقع الجغرافية وتواصل مع أبطال الحدث، وكلّ ذلك حقَّقه مينه بجودة عالية، بحيث أسر قارئه ليظلَّ شغوفاً أبداً للمقطع القادم مهما شعر بتباطؤ في بعض الأحداث.
كما أحسن حنا في حديثه عن الجبهة الشمالية (سورية) والجبهة الجنوبية (مصر) كأنهما ما زالتا قُطراً واحداً، واستخدم تعبيرات أيام الوحدة:
-(المحاربون عن المرصد: نقاتل حتى آخر قطعة سلاح.. نحارب بأجسادنا.. وبالسلاح الأبيض)، ثمَّ يختتم مينه روايته على لسان أحد أبطاله:
-(اليوم تبدَّلت الرؤى، وأشرقت الوجوه.. تشرين يا تشرين: كيف لو اكتملت فيك الأشياء ومازلنا نُردِّد إلى اليوم: كيف لو اكتملت فيك الأشياء؟).
ولأن الشعر نبض الحياة ولون الناس، فقد استطاع الشعراء التقاط اللحظة الفارقة بعد انتصارات حرب تشرين التحريرية وحوّلوها إلى شعر يُعبِّر عن فرحة النصر والحماسة، فكتب نزار قباني نثراً وجدانياً موحياً له تأثير الشعر:
-(قبل السادس من تشرين 1973 كانت صورتي مشوَّشة وغائمة وقبيحة، كانت عيناي مغارتين تُعشِّش فيهما الوطاويط والعناكب، وكان فمي خليجاً مليئاً بحطام المراكب الغارقة، وكانت علامتي الفارقة المُسجَّلة في جواز سفري هي أنني أحمل على جبيني ندبة عميقة اسمها حزيران؛ واليوم (6 تشرين 1973)، يبدأ عمري.. واليوم فقط ذهبت إلى مديرية الأحوال المدنية، وأريتهم صكَّ ولادتي التي حدثت في مستشفى عسكري نقَّال.. يتحرَّك مع المقاتلين في سيناء والجولان، فاعتبروني طفلاً شرعياً، وسجَّلوني في دفتر مواليد الوطن، لا تستغربوا كلامي، فأنا ولدت تحت الطوفان، والجسور العائمة التي علقها مهندسو الجيش المصري على كتف الضفة الشرقية وخرجت من أسنان المجنزرات السورية التي كانت تفترش الصخور في مرتفعات الجولان، أعترف لكم بأنَّ ولادتي كانت صعبة).
ومن القصائد التي تغنّت بأمجاد هذه الحرب قصيدة للشاعر الكبير نزار قباني «ترصيع بالذهب على سيف دمشقي» جاء فيها:
جاءَ تشرينُ…. إنَّ وجهَك أحلى بكثيرٍ ما ســـــرُّه تشـــرينُ؟
اركبي الشمسَ يا دمشقُ حصاناً ولك اللهُ. حـافـــظٌ وأميــــنُ
في الوقت عينه رأى الشاعر جهاد بكفلوني أنَّ تشرين هو غرَّة فجر الكرامة، لأنَّه كشف كثيراً من الحقائق وأغنى التاريخ بسفرٍ من الشموخ والسؤدد، إذ أنشد:
فجرُ الكرامةِ أنتَ يا تشرينُ غيث الشّممِ الوريف هتون
تشرين يا أغلى ملاحم أمَّتي يا قامةً للعزِّ ليـــــسَ تهونُ
ويتساوى الشعراء حسب رأي د. غسان غنيم في الاحتفاء بحرب تشرين، ومن هؤلاء قاسم مسعد عليوة وأحمد عنتر مصطفى، اللذان كانا جنديين شاركا بالحرب لكنهما لم يحظيا بالشهرة رغم قيمة نتاجهما الفني.
توفيق الحكيم بدوره وشم مقولته في تاريخ المجد بقوله: (عبرنا الهزيمة بعبورنا إلى سيناء، ومهما تكن نتيجة المعارك، فإنَّ الأهم هي الوثبة).
أما الروائي الكبير نجيب محفوظ فكتب: (رُدَّت الروح بعد معاناة طعم الموت ست سنوات)، في إشارة إلى نكسة حزيران.
بينما كتب الأديب السوري عبد السلام العجيلي حكايته السردية التوثيقية: «أزاهير تشرين المدماة»، المُدركة لحقيقة الانتصار ورمزيته؛ لكنها جميعها لا تدخل ضمن تيار أدب الحرب كما يقول الدكتور غسان غنيم.
العدد 1208 – 8 – 10 -2024