من ينظر ويحلل ويقرأ المشهد الصراعي في المنطقة وتطوراته من حيث استخدام وسائل القتل والقتال ومساحات المواجهة واتساع رقعتها وبنك أهدافها لا يساوره أدنى شك بأن القصة أكبر من استعادة رهائن وفرض واقع أمني في غزة وإعادة المستوطنين إلى المستعمرات في شمالي فلسطين وجنوب لبنان كما يدعي ساسة العدو وعلى رأسهم بنيامين نتنياهو الذي يبدو للجميع أنه هو لا غيره من يحدد الأهداف ويخوض المعارك ويسوق ما يراه مناسبًا من اهداف ليستمر السباحة في الدماء الفلسطينية واللبنانية وغيرها، ويمارس كل أشكال وفنون القتل والاغتيال وكل ذلك بالطبع بدعم وشراكة أميركية يرى فيها الغطاء والحماية لكل ما يمارسه من إرهاب وقتل وتمرد على الشرعية الدولية والرأي العام العالمي.
إن ما شهدته ساحات القتال منذ السابع من تشرين الأول 2023 وحتى الآن تشير بشكل واضح أن نتنياهو وأركان حربه وحلفاءه السياسيين من قوى التطرف لا تقف أهداف حربهم تلك عند قضية استعادة المختطفين والأسرى لدى المقاومة ولا القضاء عليها وهو يعرف أنه أمر مستحيل، ولا إقامة نظام أمني في غزة أو عودة المستوطنين إلى بيوتهم في شمالي فلسطين فهذه كلها أهداف فرعية ومبررات لاستمرار العدوان ومحاولة شرعنته وتبريره، فلو كان الهدف استعادة المختطفين لوافق على صفقة التبادل بعد شهرين من معركة الطوفان إضافة إلى أنه سيطر على أغلب أراضي غزة وحاصرها من كل الجهات وقتل عشرات الآلاف من الفلسطينيين واللبنانيين في غالبيتهم من النساء والأطفال والشيوخ ودمر كل مظاهر الحياة حيث استطاعت قواته وطيرانه ومخابراته فالأهداف الحقيقية لتلك الحرب المفتوحة تتجاوز ما هو معلن عنها ويمكن تحديدها في حزمة واسعة بعضها ذو طابع راهني والآخر استراتيجي، وهو ما يجب التوقف عنده ولعل أهمها ترحيل الفلسطينيين من غزة إلى خارج فلسطين إما عبر الضغط العسكري والسياسي وإما تحويل غزة إلى أرض غير قابلة للحياة وفرض تهجير قسري على سكانها ولاشك أنه فشل في تحقيق ذلك الهدف الاستراتيجي بفضل صمود وصبر وكفاح أهل غزة وتمسكهم بأرضهم ومقاومتهم.
أما الهدف الثاني فيكمن في القضاء على المقاومة بكل ساحاتها سواء في غزة أو الضفة الغربية أو في لبنان إضافة إلى قطع شرايين إمدادها من دول محور المقاومة وبالتالي الاستفراد بها وصولاً للقضاء على بنيتها القتالية ومغذياتها والهدف الثالث هو تفكيك محور المقاومة سواء كان دولاً أو مقاومة شعبية وفك الارتباط بين كل عناصره ومكوناته وصولاً لإخراجه من معادلة الصراع معه أي مع العدو الصهيوني والقضاء على المشروع النووي الإيراني الذي يرى فيه كسراً لعنصر الردع الذي يسعى ويعمل لاحتكاره، حيث يرى أنه لم يستطع أو ينجح في فرض شرعية وجوده في المنطقة سياسيًا وشعبيًا بالرغم من نجاح حالات التطبيع مع بعض الأنظمة، لذلك فهو يسعى ليكرسها ويفرضها بشرعية القوة وهو ما عبر عنه نتنياهو قبل عدة أسابيع بقوله أنه يريد تحقيق أو لنقل فرض السلام مقابل السلام بالقوة والمقصود طبعًا ليس السلام وإنما الاستسلام على دول المنطقة التي تواجه الكيان الصهيوني ومشروعه التوسعي ويبقى الهدف الرابع وهو الأخطر ويتمثل في تكريس نظام استراتيجي وأمني في المنطقة تحت مسمى شرق أوسط جديد يعاد تعريفه إسرائيليًا وأميركيًا على أنه الاتحاد الإبراهيمي وهو (ديباجة ) جديدة أو مجددة مضللة للهدف الذي عملت وتعمل من أجله الصهيونية العالمية عبر خطابها التوراتي وهو حلم إسرائيل الكبرى من الفرات إلى النيل فنحن أمام دبلوماسية روحية لجذر شائع يجري تسويقه سياسيًا لدمج ذلك الكيان بالمنطقة عبر خطاب لاهوتي مخادع ومضلل بعد فشل التطبيع الشعبي مع أبناء المنطقة الذين يرون في إسرائيل عدوًا محتلاً وغاصبًا لأرض ومقدسات تعنيهم جميعًا وتمثل رأسمالاً دينيًا ورمزيًا لهم جميعًا.
مما سبقت الإشارة إليه ومن خلال معاينة للواقع يتضح جليًا أن ما هو في رأس قادة ومطابخ الكيان الصهيوني وحلفائهم الأميركيين لا يقتصر على غزة أو جنوب لبنان أو الضفة الغربية وإنما هو إقامة نظام شرق أوسطي بمواصفات أميركية إسرائيلية يعيد رسم الخرائط في منطقتنا من العراق وتركيا وسورية وبلاد الشام والجزيرة العربية ومصر عبر عملية تفكيك وإعادة تركيب لهذه الدول على حوامل وخرائط ضيقة دينية ومذهبية وعرقية تسقط كل عقد اجتماعي في تلك الدول وتعيد إنتاجه بروافع ما تحت الهوية الوطنية فتصبح دول المنطقة إمارات صغرى تهيمن عليها (إسرائيل الكبرى ) ومن خلفها الولايات المتحدة الأميركية عرابها الكبير وهذه هي نهاية المطاف والهدف النهائي وراء كل ما يجري.