الثورة – تحقيق سومر الحنيش:
زقاق ضيق بمنطقة البرامكة، تعلو فيه أصوات الباعة: “ماركات عالمية بأسعار الفقراء!”، بينما تتزاحم الأيدي على “البالة” المكدسة فوق بسطات متواضعة هنا وهناك، حيث كانت نقاط تفتيش “الفرقة الرابعة” ترهق التجار بأتاوات فاحشة.
وأصبح اليوم سوقاً مفتوحاً يعج بالحياة، هذه ليست مجرد بضائع مستوردة أو ملابس أوروبية؛ إنها رمز لتحرر اقتصادي طال انتظاره، وقصة شعب يحاول أن ينهض من تحت أنقاض حرب دامت ١٤ عاماً.
من البقدونس إلى الدولار
كانت كلمة دولار تهمس خلف الأبواب المغلقة أيام النظام البائد، خوفاً من الاعتقال بتهمة التعامل بالعملة الأجنبية، اليوم ينادى بها علناً في الشوارع، بينما يلوح الأطفال برزم الليرات السورية هنا وهناك، هذا المشهد، الذي يصفه السوريون بالانعتاق الاقتصادي، جاء بعد إلغاء القيود على التعامل بالدولار وتخفيض الرسوم الجمركية بنسبة 70-80%، ما فتح الباب أمام تدفق سلع كانت غائبة لسنوات، مياه تركية معلبة، شوكولا أجنبية حيث تحولت إلى رمز للرفاهية المفقودة.
قبل عام، كان الموز يباع بـ50 ألف ليرة للكيلو، أما اليوم فثمنه 10 آلاف فقط, كأننا نعيش في بلد جديد!، يقول أبو محمد- رب أسرة: بينما يشير إلى صناديق الموز التي غزت الأسواق بعد إزالة الحواجز العسكرية.
“البالة”.. موضة الفقراء أم درس للصناعة؟
في شوارع دمشق، ومنها شارع الثورة، حيث تنتشر بسطات البالة، يقف رامي، موظف حكومي، يلتقط صوراً لمعاطف أطفال ويرسلها عبر الواتساب لزوجته، ويقول: بـ٢٠ ألف ليرة، اشتريت لابني سترة أجنبية الصنع، لتقيه برد الشتاء، بينما كان ثمنها يعادل راتبي الشهري أيام النظام البائد، يضحك وهو يشير إلى بسطة أخرى تبيع ملابس أطفال بـ2000 ليرة للقطعة.
لكن هذه الوفرة تطرح تساؤلات كثيرة: كيف تستورد سوريا أطناناً من الملابس المستعملة بينما تغلق بعض مصانع النسيج المحلية أبوابها؟ الخبير الاقتصادي معتز الحسين يوضح: الصناعيون اعتادوا على بيع منتجات رديئة بأسعار خيالية بسبب الاحتكار، الآن عليهم تحسين الجودة أو الخروج من السوق.
أيسر العبود- موظف يقول: يستحقون الخروج من السوق لأنهم كونوا سابقاً ثروة على حسابنا، ويضيف: عليهم الآن خفض أسعارهم والبيع بضمير، والمساهمة في بناء اقتصاد سوري جديد يسعى إليه الجميع.
مفارقات
وكأنك تنتقل من عالم إلى آخر عندما تنتقل من الضفة اليمنى للشارع الرئيسي في سوق الزاهرة، حيث تباع ملابس وأطعمة الفقراء إلى الضفة الثانية حيث السيارات الفخمة والبضائع الأجنبية.
وفي سوق الشعلان تعرض زجاجات كاتشب دوليز السوري بجانب نظيرتها الأمريكية هاينز، الأولى تباع بـ14 ألف ليرة، والثانية بـ78 ألفاً، الفارق السعري كبير، لكن بعض السوريون يفضلون المستورد: الجودة تفرض نفسها.
تقول دانا- وهي تضع زجاجة الـ”هاينز” في عربتها: هذه المفارقة تعكس أزمة الصناعة المحلية التي أنهكها الفساد والحرب، فمصانع الألبسة في حلب، التي كانت تصدر إلى دول الجوار، أصبحت عاجزة عن منافسة “البالة”، بينما تحاول الحكومة الجديدة إقناع الصناعيين بخفض الأسعار وتحسين الجودة.
التحديات المستقبلية
رغم الإيجابيات التي يحملها السوق الموازي، إلا أن التحديات المستقبلية تبقى كبيرة، فغياب الرقابة الفعالة على جودة البضائع المستوردة، وانتشار المنتجات المغشوشة، وعدم وجود سياسات واضحة لدعم الصناعة المحلية، كلها عوامل قد تعوق النمو الاقتصادي على المدى الطويل.
كما أن الاعتماد الكبير على الاستيراد قد يجعل الاقتصاد المحلي عرضة لتقلبات الأسواق العالمية، خاصة في ظل عدم استقرار سعر صرف الليرة السورية، فنحتاج إلى سياسات اقتصادية واضحة تعتمد على التنويع وعدم الاعتماد على قطاع واحد.
دمشق 2025.. أمل بتفاؤل حذر
رغم كل التحديات، يرى السوريون في التحولات الاقتصادية بارقة أمل، فانخفاض أسعار المواد الأساسية مثل الزيت والسكر بنسبة 20%، ووعود الحكومة برفع الرواتب 400%، أعادت للكثيرين القدرة على التنفس اقتصادياً، كما أن عودة التنوع إلى الأسواق، من ألبسة البالة إلى الشوكولا الأجنبية، تذكر بدمشق القديمة، مدينة التجار التي طالما اشتهرت بتنوعها، لكن الظل القاتم للفساد لا يزال يلوح في الأفق.
والسؤال الذي يطرح نفسه: هل يستطيع الاقتصاد السوري أن ينهض من رماده دون أن يحرق أجنحته بلهيب المنافسة غير المتكافئة؟
ختاماً..
في النهاية، قد تكون دمشق 2025 نموذجاً لاقتصاد يعيد اختراع نفسه، لكن النجاح سيعتمد على قدرة السوريين على تحويل التحديات إلى فرص، وعلى إرادتهم في بناء مستقبل أفضل لأطفالهم.
#صحيفة_الثورة