هفاف ميهوب
عندما تضطرّك الحروب والأزمات التي يعيشها العالم، للبحثِ عن خفاياها وما ورائها، وعن الأسباب الحقيقية التي تؤدي إلى اندلاعها.. عندما تضطرّك الحروب لذلك، عليك أن تقرأ التاريخ جيداً، فيكون بعض ما تعرفه:”عندما تمَّ التفوّه بالوصيّة القائلة: “لا تقتل”، بدت هذه الوصيّة شاسعة المدى، وكأنّها مرادفة لكلمة “لا تتنفس”!.. كانت تبدو مستحيلة، لا بل جنونيَة، إن لم نقل تدميراً للذات، ولكنّ هذا القول احتفظ بقوّته على مرِّ العصور، ما أدَّى إلى خلقِ القوانين والمواقف والقواعد الأخلاقية.. فقط بضعة أمثالٍ أخرى، أعطت مثل تلك الثمار، وغيّرت جذريّاً حياة الإنسان..”.إنه ما كان الكاتب والأديب الألماني “هيرمان هيسه” قد عرفهُ فدوّنه، عن الحرب العالمية الثانية، الحرب التي أصدر كتابه “إذا ما استمرّت الحرب” بعد انتهائها مباشرة، والتي رأى أن نتائجها العامة كما يلي:”لقد انقسم العالمُ إلى فريقين، يحاول كلّ منهما تحطيم الآخر، لأن كلّ منهما يريدُ الشيء نفسه، تحرير المضطهدين، وإلغاءِ العنف، وإقامة سلامٍ دائم، وإن لم يكن السلام الدائم سيتحقّق، فالحرب ستبقى دائمة بين الطرفين..”.هذا ما عرفه وشهده “هيسه” عن حربٍ، تناولها في هذا الكتاب الذي ضمّنه مقالاتٍ، تقصّد ألا يجعلها تقود القارئ إلى المشكلات السياسية، وإنما إلى عمقِ ضميره، وإلى عوالمٍ تلامسُ روحه ومشاعره.فعل ذلك، بعد أن بذلَ جهداً عقليّاً موجعاً، لفهمِ الحرب واستيعابِ قسوتها وظروفها، وللسؤال عن سببِ انشغالِ العالم كلّه بها:”لماذا تقدّسُ الحرب إلى هذه الدرجة؟!.. أتستحقُّ منك هذا كلّه؟!. ماذا تبقّى لنا؟. ما هو جوهر حياتنا؟..”.حتماً، لم يكن تجميع موادِ هذا الكتاب أمراً سهلاً لدى كاتبٍ، كان يشعر أن ذاكرته تتّقد بحكايا المعاناة والألم والقسوة والنزيف، وقد اعترف بذلك منذ مقدّمته:”كلّ مقالة تذكّرني بشكلٍ مؤلم، بأوقاتِ المعاناة والصراع والوحشة.. أوقاتٌ كانت تحدّق بي خلالها، العداوة وانعدامِ الفهم، وكنت معزولاً بصورةٍ مريرة، عن العدالة والسلام والمُثل العليا”.نعم، بهذا قدّم “هيسه” لكتابه، ودون أن يفقد الأمل، أن يكون القادم أكثر عدلاً وإنسانيّة، وقد قال في ذلك كلمة وجّهها، لكلّ من عاش ما عاشه من يأسٍ وقهرٍ وإحساسٍ بموتِ الحضارة الإنسانية:”سوف تظلّ الحروب تنشب، إلى أن تصبح غالبية الكائنات البشرية، قادرة على أن تعيش في عالم الروح الإنسانية.. مع ذلك، سيبقى إلغاءُ الحربِ أنبل أهدافنا، والغاية النهائية لأخلاقنا.. هذه الحرب البائسة يجب أن تجعلنا أشدّ وعياً، بأن الحبّ أسمى من الكراهية، والفهمُ أسمى من الغضب، والسلام أسمى من الحرب..”.هذا ما دعا إليه كاتب، علّمته الحرب معنى وقيمة السلام، واضطرّه الألم الذي سبّبته، للسعي إلى إخضاعه بالفنّ والفكرِ والأدب.. أيضاً، أجبرهُ صمت الشعوبِ وضعفها، على إعلاءِ صوته – صوتها:”العالمُ مكانٌ بارد، هو ليس منزلاً تستطيعون الجلوس فيه بطفولةٍ أبديّةٍ ودفءٍ مُصان.. العالم قاسٍ ولا يُعرف له قرار، ولا يحبّ إلا الأقوياء والقادرين.. أولئك الذين يبقون مخلصين لذواتهم”.