الثورة – لميس علي:
تحدّث الفيلسوف الألماني “والتر بنجامين” عن الملل العميق ووصفه (بطائر الأحلام الذي يفقس بيضة التجربة).
بالنسبة له يمثل النوم حالة استرخاء جسدي، بينما الملل العميق يمثل قمة الاسترخاء العقلي.
وفق نظرة سطحية، دائماً ما اُعتبر الملل إحدى الخطايا، بينما نظر إليه بعض الفلاسفة كفضيلة.
كيف يمكن الانتقال به من السلبي إلى الإيجابي..؟
غالبيتنا لا يجيد استثمار حالات مللٍ تقتحم حياتنا بين فترة وأخرى.. ولهذا نتململ منه ونتأفف كأنه حالة (سُبات أو ثبات).. أي جمود فكري، غير مدركين ما يكمن في باطنه من منفعة.
إحدى الدراسات العلمية أكّدت أن الملل مفيد للدماغ لأنه في حالة الملل يتم في دماغك تفعيل وضع يشبه “شبكة الوضع الافتراضي” التي تعمل على تنشيط التفكير الموجّه للذات، بمعنى أنه يساعد على تعزيز التفكير الإبداعي المبتكر، حين يقوم المرء بتحليل قراراته ومشاعره وأفعاله ونظرته لنفسه وللمحيط.من الأقوال الإيجابية عن الملل يأتي تعريف تولستوي: “رغبة في تحقيق الرغبات”.. بما يعنيه من كونه حالة رغبة (مبطّنة) غير مدركة لصاحبها إلا لدى ممارسة استرخاء عقلي وتأمّل عميق.. وكأن التأمّل (المنتج) لا يأتي إلا من مللٍ/سأمٍ عميق.. وبالتالي هو فعلياً (طائر الأحلام) الذي ينتج أو ينجب التجربة أو الفكرة.. كما أطلق عليه “والتر بنجامين” الذي عبّر عن أسفه لكون (أعشاش طائر الأحلام) تختفي وتتلاشى، تلك الأعشاش المرصوفة بعناصر: الوقت، والهدوء، وأيضاً الإصغاء.
كان بنجامين في ثلاثينيات القرن الماضي حذر من آفة عصر المعلومات الذي يتلاشى، مع تمدده، مجتمع المنصتين أو المتأملين.
ثمة عددٌ غير قليل من فلاسفة وكتّاب وباحثين معاصرين تنبّهوا لمخاطر هذا العصر المتمثلة بانتشار الذكاء الاصطناعي والتطبيقات الذكية التي حدّت من الهدوء والتأمل، لأجل سيادة الإفراط في التشتت أو الإلهاء..تماماً كما تفعل تطبيقات نقتنيها على أجهزتنا اللوحية.. وكل ذلك على حساب الإبداع والعمق.
فحين نعتاد التقليب/الاطلاع السريع على مواقع التواصل نحفّز إنتاج “الدوبامين” بشكل سريع ومفرط.. وهكذا يصبح لدينا تحفيز وإشباع لحظي غير مكتفين به فنطلب المزيد.. ولهذا تدريجياً، تضعف قدرة الدماغ على التفكير الإبداعي.
الاطلاع (التقليب) السريع يضعف مرونتنا في التلقي والتحليل والتعلّم، لأننا لا نعطي أدمغتنا فرصة للاستراحة، كي تتأمّل وتحلّل وتبتكر، لأنها حُبِست سلفاً ضمن دائرة من المتعة المؤقتة.