فراس علاوي – كاتب وصحفي سوري:
من بداية الحضارة إلى أفق الدولة الحديثة، ظلّت الهوية السورية مسألة مركزية في تشكيل وعي الجماعة السورية، وتحديد مسارها في وجه المشاكل والانقلابات السياسية والاجتماعية التي عصفت بالمنطقة.
إذ طالما لجأ السوريون في أوقات الأزمات إلى هويتهم الوطنية لتحصين بلدهم من الانهيار والتمزق، كما حصل في أزمات سابقة كان أبرزها الانتداب الفرنسي على سوريا.
الهوية الوطنية السورية… إرث التاريخ وتشكّله
لم تولد الهوية الوطنية السورية من فراغ، بل تشكلت عبر قرون من التفاعل الحضاري والثقافي، بدءاً من إرث المدن السومرية والأوغاريتية، مروراً بتعددية الممالك الآرامية، ووصولاً إلى مرحلة تأسيس الدولة الحديثة بعد الاستقلال.
لقد مثّلت سوريا تنوعاً حضارياً نادراً، انصهرت فيها أعراق وأديان وطوائف وثقافات، فكوّنت هوية متعددة الأبعاد، متجذرة في أرضها ومنفتحة على محيطها.
في مرحلة ما بعد الاستعمار، اتخذت الهوية الوطنية السورية شكلها السياسي الحديث، حيث نشأت الدولة السورية بشكلها الجيوسياسي الحالي، بوصفها مشروعاً لبناء دولة مدنية تقوم على المواطنة والعدالة الاجتماعية، رغم ما واجهته من تحديات داخلية وخارجية تمثلت بالإرث السياسي والاجتماعي والاقتصادي الذي تركته التجارب السابقة، ما تلا محاولات بناء الدولة السورية الحديثة على أسس وطنية من انقلابات عسكرية ومن ثم سيطرة سلطة استبدادية على الحكم قمعت جميع محاولات تشكيل الدولة الوطنية وحولتها إلى دولة بوليسية شديدة المركزية تقوم على الولاء للفرد والسلطة لا للوطن على الرغم من الشعارات الرنانة التي كانت سائدة حينذاك حول صهر الوطني بالقومي، لكنها بقيت شعارات لتخدم مركزية السلطة واستبداديتها، فتحولت من دولة الوطن إلى دولة الفرد.
الهوية الوطنية السورية… ضرورة حضارية وملحّة
في ظلّ ما عرفته سوريا خلال السنوات الأخيرة من صراعات وحروب محلية وإقليمية وتدخلات خارجية، تحوّلت الهوية الوطنية من مجرد شعور جمعي إلى ضرورة ملحّة لحماية الكيان السوري من التفكك والانهيار.
لم يعد الحديث عن الهوية ترفاً فكرياً أو خطاباً أكاديمياً، بل بات حاجة استراتيجية لإعادة بناء العقد الاجتماعي الذي تصدّع تحت وطأة الحرب، ففي فترة الحرب نشأت هويات فرعية عرقية وإثنية وعشائرية تسببت بتفتت مفهوم الوطنية وغياب النموذج الجمعي إلى نماذج خلاص فردية أو عصبوية.
تؤسس الهوية الوطنية لفضاء جامع يتجاوز الانتماءات الأولية والفرز الطائفي والإثني، وتُعلي من شأن الانتماء لسوريا كوطن يحتضن جميع أبنائه على قدم المساواة. ومن دون هذه الهوية، لا يمكن تخيّل مستقبل ينهض على أسس مدنية وسلمية.
الهوية الوطنية السورية… مفتاح الاستقرار المحلي
إنَّ مجمل التجارب التاريخية في سوريا والمنطقة أثبتت أن الاستقرار لا يمكن تحقيقه عبر القمع أو المحاصصة أو التدخلات الخارجية، بل من خلال بناء شعور وطني جامع يربط الفرد بالمؤسسات، ويمنح الجميع شعوراً بالانتماء والمسؤولية المشتركة. الهوية الوطنية بهذا المعنى ليست فقط إطاراً نظرياً، بل أداة عملية لإرساء استقرار مستدام، عبر تعميق مفهوم المواطنة، وبناء مؤسسات تمثل جميع السوريين، وتُعبّر عن تطلعاتهم وهواجسهم.
الهوية الوطنية السورية… ضمانة وحدة المجتمع
في بلد متعدد البنى كالبنية السورية، حيث يتجاور العرب والكرد والتركمان، المسلمون والمسيحيون والإيزيديون، السنة والعلويون والدروز… تشكل الهوية الوطنية الضامن الأوحد لعدم انزلاق المجتمع إلى دوامة الانقسام العمودي.
فقط من خلال التأسيس لهوية سورية جامعة، تُصان وحدة المجتمع وتُحمى تماسكاته الداخلية من التفتت والتذرر.
ولأن المشاريع العابرة للحدود أو الطائفية الضيقة المتمرسة خلف أفق رغبوي نفعي، ويرتكز على إرث سابق استخدم الانقسام المجتمعي لتثبيت أركانه وتسهيل السيطرة على المجتمع، لا تنتج إلا مزيداً من التمزق، فإن الهوية السورية الجامعة تظلّ الحصن الأخير أمام محاولات الشرذمة، وهي صمام الأمان لبقاء سوريا موحدة، حرة، مدنية، تنتمي لأبنائها جميعاً دون استثناء.