الثورة – مها دياب:
في عصر المعلومات المتدفقة، لم تعد الشائعة مجرد خبر غير مؤكد يتناقله الناس، بل أصبحت أداة إعلامية لها تأثيرات واسعة، تُستخدم لتوجيه الرأي العام، وإثارة القلق، وإحداث شرخ في المجتمعات، خاصة تلك التي تمرّ بظروف سياسية وأمنية حساسة ومنها سوريا، التي شهدت تحولاً جذرياً بعد انتصار الثورة، إذ اكتسبت الشائعات فيها بعداً جديداً، فانتقلت من كونها مجرد معلومة مغلوطة إلى حملات منظمة تستهدف زعزعة الاستقرار العام، ما يجعلها أداة فعالة بيد من يسعى إلى إبقاء المجتمع السوري في حالة مستمرة من الاضطراب والتوتر.
ضعف الإعلام
في هذا السياق يوضح الخبير السياسي عثمان المختار، أن الشائعة المتداولة اليوم في سوريا لم تعد مجرد خبر زائف ينتشر بالصدفة، بل أصبحت جزءاً من استراتيجية إعلامية ممنهجة توظف لتحقيق أهداف سياسية وطائفية تستهدف زعزعة وحدة المجتمع وتقويض استقراره.
ويرى أن هذه الظاهرة تتغذى على عدة عوامل معقدة أبرزها: ضعف الإعلام وعجزه عن تقديم ردود سريعة وفعالة تجاه الأخبار المتداولة، وتبقى المؤسسات الإعلامية في حالة تردد بين النفي والتأكيد، ما يمنح المعلومات المضللة فرصة للانتشار والتأثير قبل صدور أي توضيحات رسمية.
وبالتالي هذا الفراغ الإعلامي يستغل بشكل واسع من قبل مروجي الشائعات الذين يدركون مدى تأثير سرعة النشر في تشكيل قناعات الجمهور، خاصة في بيئة مشحونة بالتحولات السياسية، ويصبح التضليل الإعلامي سلاحاً فعالاً في إعادة توجيه الرأي العام وتعزيز حالة عدم الاستقرار.
وسائل التواصل
ويؤكد الخبير السياسي أن وسائل التواصل الاجتماعي أصبحت اليوم المنصة الرئيسة التي تصاغ فيها الشائعات وتنتشر بسرعة مذهلة، من دون أي فلترة أو تحقق، ما يعطيها قدرة فائقة على الوصول إلى أكبر عدد ممكن من الناس خلال فترة زمنية قصيرة جداً.
وإن ما يزيد الأمر تعقيداً هو ضعف مستوى الوعي المجتمعي، إذ تفتقر شرائح واسعة من السكان إلى القدرة على التمييز بين الأخبار الصحيحة والمضللة، ويشير إلى أن هذا التأثر يزداد بين الفئات الأقل تعليماً، أو تلك المعزولة عن مصادر الأخبار الموثوقة، خاصة في المناطق النائية أو التي لا تتوافر فيها بنية تحتية قوية للاتصالات والإنترنت.
وأنها غالباً ما تكون الأكثر عرضة لتصديق الإشاعات، ليس فقط بسبب نقص المعلومات، بل أيضاً نتيجة الثقة العمياء ببعض المصادر غير الرسمية إضافة للمؤثرين الذين يشاركون هذه الأخبار من دون تحقق.
زيف تقني
ونوه المختار بأنه لا يمكن إغفال التطورات التقنية التي باتت تشكل تحدياً حقيقياً في مواجهة الإشاعة، فقد أصبح بالإمكان اليوم تزييف الصور والفيديوهات وحتى الأصوات بطريقة دقيقة تجعل الإشاعة تبدو وكأنها حقيقة لا يمكن التشكيك فيها. وهذا التقدم في تقنيات التزييف الرقمي يسهل نشر أخبار كاذبة بطرق يصعب كشفها للمتابع العادي، خاصة عندما تكون الأخبار محاكية لأسلوب وكالات عالمية، ما يمنحها مصداقية زائفة تصعب على المتلقي تمييز الحقيقة من الخداع.
تشكيل واقع متوتر
يشرح الخبير السياسي، أن تأثير الإشاعات لا يقتصر فقط على نشر أخبار خاطئة، بل يمتد إلى تشكيل واقع اجتماعي متوتر، قد يؤدي إلى اضطرابات حقيقية، مؤكداً أن من أخطر انعكاساتها تعميق الانقسامات الطائفية والعرقية في المجتمع، ويتم توظيفها لإثارة الفتن وزرع الشك بين المكونات المختلفة، ما يخلق فجوة نفسية واجتماعية بين الأطراف المتصارعة، ويصعّب من جهود إعادة بناء الثقة والتعايش المشترك.
ويرى أن بعض الشائعات قد تؤدي إلى أعمال عنف فردية أو جماعية، خاصة حينما تكون ذات طابع ديني أو اقتصادي، إذ اندلعت في مرات عديدة احتجاجات غير محسوبة النتائج بسبب معلومات مضللة انتشرت عبر منصات التواصل الاجتماعي من دون تحقق، مشيراً إلى أن حالة الإرباك العام التي تسببها الشائعات تلقي بظلالها على الأوضاع الأمنية والاقتصادية، حيث تؤدي إلى نشر الذعر بين السكان، وإثارة الشكوك حول مستقبل البلاد، ما يعرقل أي خطوات نحو إعادة الاستقرار والتنمية المستدامة.
التصدي للشائعات
ويؤكد أن مواجهة المد المتزايد من الشائعات المختلفة تتطلب استراتيجية شاملة تجمع بين سرعة الاستجابة، ودقة المعلومات، والتفاعل المباشر مع المجتمع، مشيراً إلى أن إصدار بيانات رسمية دقيقة وفورية عبر وزارات الداخلية والإعلام وأمانة مجلس الوزراء يعد أمراً بالغ الأهمية، إذ يساعد ذلك في الحد من انتشار المعلومات المغلوطة قبل أن تترسخ في وعي الجمهور.
ويضيف: إن تعزيز التعاون بين الإعلام الرسمي والمؤثرين في المجتمع يمكن أن يلعب دوراً رئيسياً في التصدي للشائعة، حيث يستطيع المؤثرون الوصول إلى فئات واسعة من المتابعين، ما يجعلهم أداة فعّالة لتوضيح الحقائق ودحض الأكاذيب بسرعة وفعالية.
ويرى أنه من الضروري أيضاً العمل على متابعة وملاحقة مروجي الشائعات، ليس فقط عبرالرصد الإعلامي، ولكن أيضاً من خلال التعاون مع الأمن الرقمي لتحديد الجهات التي تقف وراء نشر الأخبار الزائفة، واتخاذ إجراءات قانونية صارمة بحقهم.
وعلى المستوى التوعوي، شدد على أهمية إطلاق حملات إعلامية ضخمة تركزعلى نشر ثقافة التحقق من الأخبار كخطوة جوهرية في تعزيز وعي الجمهور، بحيث تشمل هذه الحملات برامج مرئية ومسموعة، إلى جانب إعلانات ميدانية في الشوارع، توجه المواطنين نحو الاعتماد على مصادر موثوقة وتجنب الانجرار وراء الأخبار المشبوهة.
الشفافية بنقل المعلومات
وأضاف المختار: إن هذه الحلول لن تحقق نتائج مستدامة من دون أن تتخذ الحكومة خطوات فعلية نحو تعزيز الشفافية بنقل المعلومات، فكلما كانت الدولة أكثر انفتاحاً في توفير البيانات والمعلومات الصحيحة، كلما قلّ تأثير هذه الإشاعات، وأصبح المجتمع أكثر قدرة على التفريق بين الحقيقة والتضليل.
وأهم الخطوات في هذا السياق هي إصلاح المؤسسات الإعلامية الرسمية، حيث يجب إعادة هيكلة الإعلام الحكومي ليصبح مصدراً موثوقاً للمعلومات، وبعيداً عن النموذج الذي كان يستخدم في الماضي كأداة كذب ودعاية وترهيب، الأمر الذي دفع المواطنين للبحث عن مصادر أخرى، حتى وإن كانت غير موثوقة.
سلاح مدروس
وبيّن أن الشائعة ليست مجرد خبر خاطئ يتم تداوله بين الناس، بل هي سلاح يستخدم بشكل واع ومدروس لزعزعة المجتمع وإرباكه، خصوصاً في فترات التحولات السياسية.
لذلك فإن مواجهتها يجب ألا تكون مقتصرة على جهود فردية أو مؤسساتية منعزلة، بل تحتاج إلى تكامل بين الإعلام الرسمي، والمجتمع المدني، والحكومة، من أجل وضع أسس جديدة لخطاب إعلامي يعتمد على المصداقية والشفافية.
فكلما ازداد وعي المواطنين بمخاطر المعلومات المضللة، انخفضت قدرة الإشاعة على اختراق المجتمع والتأثيرعلى مساره، مما يفتح المجال أمام استقرار حقيقي يمهد لمرحلة جديدة في سوريا، تبنى على الثقة والوضوح، وليس على الخداع والتشكيك.