الثورة – رفاه الدروبي:
التقينا منذ بداية الثّورة السّوريّة.. كانت عيوننا تقطر دمعاً على مكان جريح غادرناه معاً، لكننا اجتمعنا على حب وطننا “سوريا”، إذ نثرت قمر صبري الجاسم عبير كلماتها شوقاً له.
إنَّها أنثى أرادت أن تثبت وجود المرأة المبدعة، وتمنحها الثقة بنفسها، وبغيرها من النساء، لذا كانت أمها، تمنحها القوة وتقنعها أن تستمد منها بوادر الكتابة فتخلق منذ صدور بيان وجود الإنسان، في جيناته، وعلى الأهل أن يكتشفوها لتنميتها، ليس بالكتابة فقط بل كل إنسان خلق متميزاً بشيء ما ثم يأتي دور الأهل، كان أخوها جمال أول من نشر لها نصاً في جريدة الأطفال الموهوبين ومنحها المسؤولية والمثابرة.
الإعلام غيَّر طريقي
درست الجاسم الاقتصاد لأنَّها أحبَّت لعبة الأرقام وحل المعادلات الصعبة، فدخلت مجال العمل في المحاسبة منذ السنة الثانية في الجامعة، لكنَّ امرأة أرادت أن تأخذ مكانها ما جعلها تترك عملاً أحبَّته، ليقلب حياتها جذرياً وتعمل بالإعلام، فتعلمت أنَّه يلقى على عاتقها مسؤولية تغيير أفكار المرأة وإقناعها أنَّنا بحاجة إلى أن نكون يداً واحدة، لا أن نسعى لتحطيم بعضنا، وليس لديها أي مشكلة مع الشكل، فالمضمون كان الأهم، تكره الصراخ لعدم جدواه، إنَّها مع الصراخ بالمعنى الضمني للنص وليس بالصوت أو القافية أو الشكل، بل أن تكون لها بصمة خاصة، وكان ذلك حين يقرأ أحد نصاً لها يعرف أنَّه من كتاباتها حتى ولو كان مغفل الاسم يكفيها، وكل ما قرأته تعيده بشكل مختلف مع التجربة، وكل ثانية عليها تمرُّ بها تعلمها شيئاً جديداً يجعلها تنظر إلى كل شيء بشكل مختلف، فإن لم يكن لقلمها صوت من لا يستطيع الصراخ، وقلب من لا يستطيع التعبير، والدمع لمن لا يستطيع البكاء، ما كانت ولا كان قلمها عندما ألقت قصيدتها “الساعة الآن” في مكتبة محمد بن راشد كانت ترى الدموع وتسمع أصوات القلوب مع التصفيق بخاصة عندما قالت:
على مفرقِ الحربِ بين السلامِ وبين القتالِ
وما بين شكِّ الرؤى واليقينْ
يقول المذيع من الساعةِ الآن
عادت دمشقُ إلى الياسمين
الكاتب الحر يجب أن يكتب على دمه نفسه لا أن ينتظر حتى تُسفك الدماء لتحرر قلمه.
ثورة يجب أن تحدث
إنَّ المرأة أماً وأختاً وابنة.. وفي المحصلة فرد من أسرة كبيرة تعني الوطن، فرد في مجتمع سُلب العمر كله من أفراده وأراضيه وخيراته، وكان يخط قلمها أيضاً من خلال عملها في جريدة العروبة في حمص، إذ قدمت مقالات ساخرة وناقدة، فالكاتب الحر يجب أن يكتب على دمه، لا ينتظر حتى تُسفك الدماء كي يحرر قلمه، ويضع نياشين البطولة على صدر كتاباته على حساب من دفعوا أرواحهم ثمناً لحريته، وصبره على الظلم وانكفاء قلمه خوفاً من كُتّاب التقارير.
بينما ترى أنَّ النص يجب ألا يرتبط بمكان أو زمان، فقصائدها كتبتها منذ أكثر من عشرين عاماً بينما يظنون أنَّها خطتها الآن، كأنَّهم يضعون وساماً على صدرها كونها استطاعت أن تكتب ما سيحدث وما يجب أن يحدث.. أمَّا المدن فالشام عاصمة اللغات.. لذا قالت:
على صوت كلِّ الأرضِ يطغى نداؤها
ويكسر ظهر العاشقينَ انحناؤها
من اليأس تخشى من تمزِّق روحنا
فيكسو زمان البغضِ حباَ رداؤها
على الورد تخشى من ذبول حنانه
وتبكي على قلق النسيم سماؤها
إذا فرّقت بين الأشقاء محنةٌ
إلى الحاء ملء الكون تمتد باؤها.
الشاعر يقرأ المستقبل لم تنتظر ثورة شعب كي تكتب، بل كتبت عن ثورة يجب أن تحدث، لا تستطيع أن تكذب لكنَّها معاناة مجتمع بكلِّ مكوناته، كي تتحدث عن الفرح والوطن والحبِّ، ليست ممن ينتظرون حدوث ما يعتبره البعض معجزة فينكفئون عن الكلام خوفاً ورهبة فيتحدثون عن السجون بعد إطلاق سراح السجناء، ليصبحوا الصوت النابض للثورة، وتعتبر الشاعر مَنْ يكتب عن الثورة بعد أن تقوم، يصبح كالمدونين للتاريخ، لا مشاركين في صناعتها أو داعين لها، وكانت تعرف بعد كل أمسية أنَّها ستجد رجل الأمن ينتظرها في البيت.. كانت الرهبة فقط أول مرة، أمَّا قصيدتها “خالد” فنُشرت حين جمعوا ما كتب عن الصحابي الجليل خالد بن الوليد أثناء قصف مسجده في حمص، وكانت تفتتح مشاركاتها بها فتقول:
ما عاد في أرض المرايا للخيول حظيرة
يابن الوليد
فضوا بكارة سيفك العذري في حرب الأنا
لا ناقةً فيها لصوتكَ أو جمل
ورحلتَ بعد الميتةِ الأولى شهيد..
أولئك مَنْ كانوا يطلقون على قصائدها صفة الحزن والسوداوية صاروا يطلقون عليها رمزاً لشعراء الثورة كونها كتبت من منطلق أنَّه لا قيمة لنصوص الشاعر إذا ظل مستسلماً للصمت، أو لقصائد المدح أو منزوياً في خانة قصائد الحبِّ، كل ما كتبه كان شجاعة استمدها ممن بذلوا أرواحهم لا دماء أقلامهم الزرقاء.
وجعها خففه الشّارع
رغم وجع تهجير حملته مع نفسها وأمها المريضة، وكلّ ما عانيناه كان اسمها يسبقها إلى أي بلد، ليس فقط في الوسط الثقافي، بل في الشارع، وعند الباعة، والمطارات، على الحدود، فيرددون: قمرالزمان شاعرة سورية، ورغم أنَّ إصداراتها بلغت عشرة دواوين ولديها مخطوطات في طريقها للنشر ونظمت كلَّ أشكال الشعر، وحتى الشعبي منه إلا أنَّها طرقت باب القصة الساخرة والقصيرة وكتبت في الدراما، أمَّا الترجمة، فجعلتها سفيرة الكلمة عبر العالم، لإيصال أحلام وآمال ومعاناة أرض وشعب يستحق أن يعيش، وكانت السبيل الوحيد لتخرج للوطن العربي وتروي لهم الكثير من الألم والوجع والخوف، وحين تُرجمت قصائدها علقت مأساتنا على وجه الكرة الأرضية من قصائدها المترجمة:
لن أقرأ شعري إلا للمضطهَدينَ
نذرتُ كتاباتي للمحرومينَ
المنكوبينَ المُغتَصبينَ، المشنوقين
المسجونينَ، المنفيينَ، المقهورين..
أقسمتُ.. وإذ بي صوتُ العربِ النابضْ.