الثورة – جهاد اصطيف:
على مشارف الافتتاح الرسمي لمعرض دمشق الدولي بدورته الحالية، تستعيد العاصمة السورية ألقها المعتاد، لتغدو محط أنظار رجال الأعمال والمستثمرين والوفود القادمة من دول عربية وأجنبية.
المعرض الذي غاب لسنوات طويلة بسبب ظروف الحرب والضغوط الاقتصادية، يعود اليوم ليشكل نافذة واسعة للاقتصاد السوري على العالم، ويعيد رسم صورة جديدة عن قدرته على الصمود والتعافي.
لكن المشاركة التي خطفت الأضواء، جاءت من مدينة حلب، تلك التي كانت على مدى عقود القلب الصناعي النابض لسوريا والمركز التجاري والحرفي الأول في المنطقة، فالصناعيون والتجار والحرفيون الحلبيون لم يشاركوا حضوراً تقليدياً، بل حملوا معهم رمزية ودلالات تتجاوز مجرد عرض منتجات، لتكون مشاركتهم بمثابة إعلان صريح عن عودة الدور الاقتصادي لمدينتهم بعد سنوات من التدمير والتحديات.
من ذاكرة الاقتصاد إلى رهانات المستقبل
سيحمل معرض دمشق الدولي مكانة خاصة في ذاكرة السوريين، فمنذ انطلاقته الأولى عام 1954، كان منصة وطنية للتعريف بالمنتج السوري، وواجهة للتبادل التجاري والثقافي مع العالم، لعقود طويلة، ارتبط اسم المعرض بالعقود التجارية الضخمة والوفود الدولية التي كانت تتدفق إلى دمشق لتوقيع اتفاقيات واستكشاف فرص استثمارية.
وإذا كان المعرض في الماضي مناسبة احتفالية تجمع ما بين الفن والثقافة والتجارة، فإنه اليوم يعود في ظروف مغايرة تماماً، إذ يحتاج الاقتصاد السوري إلى منصات تسويق وترويج أكثر من أي وقت مضى، بعد سنوات من الحرب والعقوبات، وهنا تبرز مشاركة حلب بوصفها الأهم، ليس فقط من حيث الحجم، بل من حيث الرمزية أيضاً.
رئيس غرفة صناعة حلب، عماد طه القاسم، يرى أن المعرض يشكل منصة لعودة سوريا إلى الواجهة الاقتصادية الإقليمية والدولية، ويبين خلال حديثه لصحيفة الثورة، أن حجم المشاركة فيه لأكبر دليل على ذلك، إذ تشارك نحو 1000 شركة، نصفها تقريباً من الدول العربية، وهي أكبر نسبة في تاريخ المشاركات، إنه حدث مهم والأبرز بعد التحرير، وفتح خطوط التواصل، وخصوصاً بعد تنفيذ أمر رفع العقوبات الاقتصادية عن سوريا، والتي كانت مفروضة زمن النظام البائد.
ويضيف القاسم: يمكن أن نطلق على المعرض في دورته الحالية وصف “العرس الوطني”، بمشاركة نحو 1400 مدعو من مختلف الفعاليات في سوريا وخارجها، إنه فرصة لتنظيم لقاءات نوعية، واستكمال لما بدأناه في لقاءات سابقة، ومنها اللقاء الأخير مع وفد (موصياد) التركي الذي يضم نحو 100 فرع في العالم، سنكون حاضرين بشكل فاعل في معرضهم القادم المخصص لرجال الأعمال.
ويتابع رئيس الغرفة: هناك معطيات كثيرة تدل على أن سوريا تسير نحو النهوض مجدداً، وأن المشاركين والمدعوين سيشاركوننا هذه النهضة، وأن غرفة صناعة حلب لها حضورها الدائم في مختلف المعارض، وهي تستعد لإطلاق معرض “حرير موتكس” الذي يشارك فيه نحو 70 بالمئة من الصناعيين الحلبيين، إضافة إلى جهود مكتب المعرض في الغرفة، الذي يعمل بشكل متواصل مع مختلف الفعاليات والدول الخليجية، وتركيا والعراق وغيرهما.
مختلفة كمّاً ونوعاً
وعن أهمية مشاركة حلب في المعرض، أكد القاسم أنها ستكون مختلفة كمّاً ونوعاً، وسنثبت للعالم أجمع أن سوريا في طريقها للازدهار وعودة الثقة بالصناعة السورية، وسيكون اعتمادنا على التصدير في المرحلة القادمة لمختلف دول العالم، منوهاً بأن حلب ستكون لها الحصة الأكبر من المشاركين بنحو 70 بالمئة بكل الصناعات.
ووعد بأن تعود الصناعة السورية إلى الريادة كما كانت في السابق من العشرة الأوائل عالمياً، وأن بذور تلك الريادة بدأت بالظهور، بعد أن قطعنا أشواطاً وخطوات كبيرة في هذا الاتجاه.
المعرض بالنسبة لحلب لا يقتصر على أسبوع من النشاط التجاري، فالصناعيون والتجار والحرفيون الذين قدموا إلى دمشق، يعتبرون وجودهم إعلاناً عن عودة مدينتهم إلى الواجهة، من الألبسة الجاهزة إلى الصناعات الغذائية والكيميائية والهندسية، مروراً بالحلويات التقليدية وصابون الغار، جاءت الوفود الحلبية محملة بمنتجات تحمل هوية المدينة وتاريخها.
رامز غجر، صناعي في قطاع النسيج، يقول: سوقنا التقليدية كانت في العراق والخليج، هذه الأسواق لا تزال مفتوحة، لكنها أكثر تنافسية الآن، المعرض يمنحنا فرصة للقاء المستوردين مباشرة وإقناعهم أن الصناعة الحلبية ما زالت قادرة على المنافسة من حيث الجودة والسعر.
أما الصناعي مصطفى حايك، في قطاع الصناعات الهندسية، فيوضح أن الهدف يتجاوز الترويج، فالمعرض فرصة لعقد شراكات مع موردين من الخارج، ونحن بحاجة لتأمين خط إمداد مستقر من المواد الأولية، وهذا ما يمكن أن يساعدنا على استمرارية الإنتاج.
هوية مدينة بأكملها
حلب لم تعرف فقط بكونها مدينة مصانع ضخمة، بل أيضاً مدينة الحرفيين والصناعات اليدوية التي شكلت جزءاً من هويتها التاريخية، النحاسيات، الخشب المحفور، الحلويات التقليدية، وصابون الغار، كلها منتجات تحضر بقوة في جناح حلب.
الحرفي عمر رواس يقول: نحن ننافس بالأصالة. زبائننا يبحثون عن منتج يحمل قصة وتاريخاً، وهذا ما نقدمه، مشاركتنا في المعرض رسالة أننا ما زلنا هنا وما زلنا نبدع.
حتى المبادرات الفردية كان لها مكان، حرفية شابة تعمل في صناعة الصابون الطبيعي، رأت في مشاركتها المتواضعة مكسباً، فالمعرض فرصة للتعريف بمنتجاتنا عبر وسائل الإعلام، حتى لو لم نوقع عقوداً، فإن مجرد التعريف مكسب كبير.
الخبير الاقتصادي فادي حمود يصف المعرض أنه رافعة اقتصادية على مستويات عدة، فهو يدعم حركة التصدير، ويعيد الثقة بالمنتج المحلي، ويجذب الاستثمارات، كما أنه يساهم في تشغيل آلاف الأيدي العاملة. إذا نجحت حلب في توقيع عقود جدية، فإن ذلك سينعكس مباشرة على الاقتصاد الوطني.
ويضيف: القيمة الأهم ليست في حجم الصفقات فقط، بل في الرسالة التي يوجهها المعرض للعالم، بأن الاقتصاد السوري قادر على النهوض مجدداً رغم التحديات.
من حلب إلى الوطن.. رؤية مستقبلية
الخبراء يرون أن المطلوب اليوم هو استثمار المشاركة في المعرض عبر خطوات عملية، أبرزها تشكيل تكتلات تصديرية ضمن قطاعات محددة، وتفعيل قنوات دفع آمنة بالتنسيق مع مصارف محلية وإقليمية، وإطلاق حملات تسويق رقمية موازية تستهدف زبائن لم يحضروا المعرض، وإيجاد آلية متابعة لضمان تحويل الاهتمام إلى عقود فعلية.
بهذه الخطوات، يمكن لحلب أن تستعيد مكانتها كعاصمة اقتصادية، وأن يتحول المعرض من مجرد أسبوع نشاط إلى نقطة انطلاق لمرحلة جديدة.
إن مشاركة حلب في معرض دمشق الدولي تحمل بعداً يتجاوز الاقتصاد، إنها رسالة أن سوريا، رغم كل ما مرّت به، لا تزال قادرة على النهوض، وأن قلبها الصناعي والتجاري يعود للنبض من جديد، فالمعرض هذا العام ليس مجرد فعالية موسمية، بل اختبار لإرادة السوريين في تحويل التحديات إلى فرص.. وإذا نجحت حلب في استثمار وجودها داخل أجنحة المعرض وتحويل اللقاءات إلى عقود، فإن ذلك لن يكون فقط انتصاراً اقتصادياً، بل أيضاً رمز وطني على طريق التعافي.