ثورة أون لاين – بقلم رئيس التحريرعلي قاسم:
لا تستطيع كامب ديفيد بما تحمله من رمزية منبوذة في الوجدان العربي أن تخرج من جلدتها، ولا أن تكون حيادية في أي خبر يتناول الوضع العربي أو ما يتعلق بما يجري في المنطقة، ونحن على تخوم منعطفات مفصلية لا تخفي حالها، ولا تشعر بحرج إثبات الفارق بين ما قبلها وما بعدها.
وإذا كانت قمة كامب ديفيد الأولى قد أحدثت اختراقاً لجهة إخراج مصر في حينه ومحاولتها تطبيع العلاقة مع عدو معلن، والتي «نضجت» في شكل التواصل بين إسرائيل وكثير من المشيخات والدول الوظيفية المعدّة مُسبقاً، فإنها في نسختها الثانية اصطنعت من العربي أكثر من عدو، ولم تتردد في إضفاء المشروعية على المصطلح وإعطائه إذن العبور إلى السياسة والدبلوماسية ليكون بيدقاً لحروب مفتوحة لا تكتفي بالجبهات القائمة بقدر ما تشرعن الطريق نحو إزالة صورة العدو الإسرائيلي لتضع مكانها وعلناً صورة العدو العربي للعربي.
الأخطر لم يكن في البيان المعدّ بإتقان أميركي مسهب في رغبته بإظهار الفارق بين كامب ديفيد السادات وكامب ديفيد المشيخات، بل في الزوايا التي بقيت خارج منطوق الكلمات الأميركية، وهي تستدرج واقعاً جديداً لا تكتفي فيه المشيخات بدورها الوظيفي المعتاد والقائم على تنفيذ الأجندات الأميركية وكالة كانت أم أصالة، بل تجتهد في طرح مبادرات تضع الوضع العربي والمنطقة على فوهة انفجارات قادمة وسط الغبار الأميركي المثار عن إذعان المشيخات لطلبها بتأييد أي اتفاق قادم مع إيران.
فهي تسعى وبوضوح شديد إلى إدراج وظائف جديدة على مقاس الأدوار التقليدية التي تصبح فيه أميركا ملهماً لمغامرات خارج سياق حضورها أو من دون أن تكون في واجهة الحدث في المنطقة، وهو ما تجزم به لغة التحفظ التي خرجت من كواليس كامب ديفيد قبل البيان وبعده، كما تشي بها لهجة التشفّي الواضحة في البيانات التوضيحية غير الرسمية التي صدرت من مرافق خدمية ملحقة داخل المشيخات.
على أساس هذه المعادلة تبدو المقاربة الأميركية الأكثر وضوحاً ما سرّبته قوائم (الإنجازات) الملحقة ببيان كامب ديفيد، والتي تكفّلت بها الصحافة الأميركية وبعض الدوائر القريبة من البيت الأبيض وقد أفسحت في المجال أمام قراءة هادئة للخطوط العريضة، بما في ذلك المنح السياسية للمشيخات التي جاءت على خلفية تراكم الصفقات التسليحية المعدّة لعقد قادم من الزمن، وهي تحاكي في حدها الأدنى تعميم حالة المخاوف لزمن موازٍ لها وربما تتجاوزها في الصلاحية، رغم أن بعضها لا يصلُح للتداول أكثر من بضعة أشهر.
الأخطر تبقى مسألة المقارنة الواردة في سياق التداعيات بين ما أحدثته كامب ديفيد الأولى و ما ستبنيه كامب ديفيد الثانية من شواهد وأدلة وقرائن غير مسبوقة على إحداثيات العلاقة السياسية في المنطقة، والتي تروّج لخرائط لا تكتفي بتناقضها مع المجريات على الأرض، بل تتصادم حتى مع ذاتها، وأكثرها مجرّد تمنيات تستحيل ترجمتها وأوهام تدفع لمزيد من المجون السياسي والعسكري لأبواق تخاطب باللسان الأميركي وتنطق بأحرف إسرائيلية مجرّدة وباللكنة العبرية.
ما يزيد من هواجس المنطقة أنها أمام اصطفافات سياسية لا تكتفي بما تم إنشاؤه من محاور تقوم على المجابهة والمواجهة المفتوحة بين أجندات متصارعة، أو تؤسس للصراع على مدى عقود قادمة، وإنما في تعدّد تلك المحاور وتعدّد الاصطفافات داخلها، ما يؤسّس لصراع متعدد الجبهات والأبعاد والسمات والأسباب والدوافع، بدءاً من الطائفي والعرقي وليس انتهاءً بالسياسي والإيديولوجي.
كامب ديفيد لم تكتفِ بشطب إسرائيل من قائمة العداوة العلنية والسرية مع المشيخات، ولا بشطب الصراع العربي الإسرائيلي من أولوياتها، بل أضافت قائمة لا تنتهي من مبررات ومسوّغات الصراع التي توّجتها أميركا بالإعلان عن العهدة الجديدة لهذا الصراع ومحدّداته ومفاهيمه، بل أدواته وعناصره ومكوّناته، حيث الشعوب العربية وقوده الذي لا ينضب، ولكن أيضاً المشيخات ذاتها لن تكون خارجه.
المقاربة الوحيدة المتاحة اليوم أننا أمام جبهة مفتوحة على الأفق ومعركة طويلة وحرب تفرض نفسها من الأعراب على من تبقّى من العرب تقودها أميركا وإسرائيل، وخط الفصل واضح لا يحتمل التأويل ولا التفسير المزدوج، ولا مجال للخلط ولا الحياد أو الصمت.
a.ka667@yahoo.com