الثورة – لينا شلهوب:
في خضم مسار طويل من التداعيات التي خلّفتها سنوات الحرب، يبرز ملف الاستيلاء غير المشروع على العقارات كأحد أكثر القضايا إلحاحاً وتعقيداً في المشهد السوري، لما يحمله من أبعاد قانونية واجتماعية واقتصادية، تمسّ جوهر العدالة وحقوق الملكية، فخلف جدران المنازل التي تغيرت أبوابها وأسماء ساكنيها، تختبئ حكايات لمواطنين انتزعت أملاكهم قسراً، وغيبت وثائقهم وسط فوضى النزوح والتهجير.
منعطف مفصلي
وفي هذا الشأن، يرى مختصون أنه اليوم تعود وزارة العدل لتضع هذا الملف الشائك على طاولة القانون مجدداً، عبر خطوة اعتبرها مراقبون منعطفاً مفصلياً في طريق استعادة الحقوق وإنصاف المتضررين، وذلك عبر إطلاق خطة قضائية شاملة تهدف إلى توحيد الاجتهاد وتسريع البت في القضايا، بما يعيد الثقة بمؤسسات العدالة ويكرّس مبدأ سيادة القانون كمرجع أعلى لكل نزاع وحق.
إذ يبين الخبير القانوني في الشؤون العقارية عصام قولي لصحيفة الثورة أن هذه الخطوة تعد من أكثر القرارات القضائية حساسية وتأثيراً على المشهد الحقوقي في سوريا ما بعد الحرب، من خلال ما أصدرته وزارة العدل عبر بيانها التي أعلنت فيه خطة متكاملة لمعالجة ملف الاستيلاء غير المشروع على العقارات، وهو الملف الذي شكّل لسنوات طويلة أحد أبرز مصادر الشكاوى والانقسامات القانونية والاجتماعية، خصوصاً في المناطق التي شهدت تهجيراً واسعاً بعد أحداث الثورة السورية.
جاء بيان وزارة العدل – الصادر استناداً إلى قرار مجلس القضاء الأعلى رقم (526) بتاريخ 20 تشرين الأول 2025 – ليؤكد التزام الوزارة بترسيخ سيادة القانون، وصون الحقوق العقارية للمواطنين، مشيراً إلى أن النيابة العامة كانت قد أشرفت خلال السنوات الماضية على لجان “الغصب البيّن”، التي أسهمت في معالجة العديد من القضايا، إلا أن تزايد الشكاوى وتعقيد الملفات وتداخل المصالح، استدعى إيجاد نهج قضائي موحد وسريع ومنصف، بحسب نص البيان.
ويؤكد القرار تخصيص محاكم ودوائر قضائية خاصة للنظر حصرياً في قضايا الاستيلاء غير المشروع على العقارات، بهدف توحيد الاجتهاد وتقصير المدد الزمنية لتسوية النزاعات، دون المساس بضمانات المحاكمة العادلة وحقوق الدفاع.
الحد من تضارب الاجتهادات
أشار قولي، إلى أن القرار يشكل نقلة نوعية في التعاطي مع أحد أكثر الملفات تعقيداً في مرحلة ما بعد الحرب، موضحاً أن تخصيص محاكم متخصصة من شأنه الحد من تضارب الاجتهادات القضائية، وتوحيد آليات الفصل في الدعاوى العقارية، مضيفاً: إن الاستيلاء على العقارات تم خلال السنوات الماضية بأشكال متعددة، منها الغصب المباشر، أو نقل الملكية عبر وكالات غير نظامية، أو بقرارات إدارية استثنائية، وبالتالي فإن المعالجة لا بد أن تكون على قدر كبير من الدقة القانونية لتحديد المسؤوليات وإثبات الملكيات.
كما يوضح أن القرار يعتمد مبدأ القضاء المتخصص، وهو مبدأ معمول به في كثير من الأنظمة القضائية الحديثة، ويهدف إلى تسريع البت في القضايا ذات الطابع الفني أو المعقد، لافتاُ إلى أن الملفات العقارية تحتاج إلى خبرة قانونية وفنية متشابكة، خاصة حين يتعلق الأمر بإثباتات الملكية المفقودة أو السجلات العقارية التي تعرضت للضرر خلال الحرب.
إلى جانب الجوانب القانونية، يرى قولي أن لهذه الخطوة أبعاد إنسانية ومجتمعية مهمة، إذ تمثل جزءاً من مسار أوسع لإعادة الحقوق إلى أصحابها، وتحقيق العدالة الانتقالية ضمن سياق وطني شامل، معتبراً أن استرداد الملكيات المغتصبة لا يقتصر على التعويض المادي، بل يحمل دلالات عميقة تتعلق بالاعتراف ببعض التظلمات، وجبر الضرر، وتعزيز الثقة بين المواطن والدولة، كما أكد أن معالجة هذه القضايا ضمن إطار قضائي موحد وشفاف يمكن أن يسهم في تخفيف الاحتقان الاجتماعي، وتهيئة بيئة مستقرة تشجع على عودة النازحين والمغتربين إلى مناطقهم الأصلية.
تحديات التنفيذ
رغم الترحيب الواسع بالقرار، إلا أن العديد من الخبراء يرون أن التنفيذ الواقعي سيكون التحدي الأكبر، فبحسب المحامية رغد منصور، فإن حجم الملفات العقارية المتنازع عليها ضخم للغاية، وبعضها يعود إلى سنوات طويلة، ويعاني من نقص الوثائق أو تلفها، ما يتطلب تعاوناً وثيقاً بين القضاء ووزارات الإدارة المحلية والداخلية والسجل العقاري، وتؤكد منصور أن نجاح الخطة مرهون بمدى تفعيل آليات التبليغ، وتوفير الكوادر القضائية والفنية الكافية، إضافة إلى ضرورة ضمان الشفافية في عمل اللجان المختصة حتى لا تتحول إلى مصدر جديد للتعطيل أو الشكوى.
ومن منظور اقتصادي، ترى أن القرار يحمل آثاراً إيجابية محتملة على السوق العقارية، إذ سيسهم في إعادة تنشيط حركة التسجيل ونقل الملكيات بطريقة نظامية، ويعزز ثقة المستثمرين المحليين ببيئة الملكية القانونية.
بدوره اعتبر الباحث في شؤون التنمية العقارية، عادل طعمة، أن استقرار الملكية شرط أساسي لأي عملية إعادة إعمار أو استثمار مستدام، مشيراً إلى أن غياب الحسم في قضايا الغصب كان سبباً رئيسياً في تجميد مئات المشاريع، وإحجام كثير من المستثمرين عن العودة.
العدالة كمدخل للمصالحة
فيما يرى طعمة أن ما تسعى إليه وزارة العدل من خلال هذه الخطة لا يقتصر على حل نزاعات عقارية فحسب، بل يهدف إلى معالجة أحد جذور الانقسام الاجتماعي الذي خلّفته الحرب، عبر إرساء قناعة عامة بأن العدالة ممكنة، وأن القانون قادر على حماية الحقوق، منوهاً بأنه حين يشعر المواطن أن القضاء هو طريقة الآمن لاستعادة حقه، نكون قد قطعنا نصف الطريق نحو المصالحة الوطنية الحقيقية، ويشدد على أنه ما بين التحديات والتطلعات، يبقى القرار خطوة في الاتجاه الصحيح، نحو ترميم الثقة بين المواطن والدولة، وإعادة الاعتبار لسيادة القانون كمرجعية عليا في تنظيم الملكيات وصون الحقوق.