جيل بلا آباء.. تداعيات غياب الرجال على البنية الاجتماعية والأسر في سوريا

الثورة – هدى الكليب:

منذ أكثر من عقد، تتعرض البنية الاجتماعية في سوريا لتحولات عميقة لا تقف عند حدود السياسة والاقتصاد، بل تمتد إلى أدق تفاصيل الحياة الأسرية، ومن جملة هذه التحولات يبرز غياب الرجال، وفاة أو اعتقالاً أو هجرة، بوصفه أحد أكثر العوامل تأثيراً في إعادة تشكيل الواقع الاجتماعي.

في المدن السورية، تتشابه الحكايات رغم اختلاف التفاصيل: أسر فقدت معيلها، وأمهات وجدن أنفسهن أمام مسؤوليات مضاعفة، وأطفال يكبرون في ظروف استثنائية تحرمهم من وجود الأب بوصفه مرجعاً وسنداً وركيزة أساسية في بنية الأسرة التقليدية. هذه التغيرات لم تبقَ محصورة في البيوت، بل انعكست على المجتمع بأسره عبر تبدل الأدوار وتوسع دائرة النساء المعيلات.

يوميات أسر تعيش فراغ الدور الأبوي

في أحد أحياء مدينة إدلب، تجلس سعاد (38 عاماً) إلى جانب ماكينة خياطة قديمة داخل غرفة صغيرة تستأجرها لتعيش فيها مع أطفالها الثلاثة. كان زوجها معتقلاً منذ عام 2016، وظل مصيره مجهولاً سنوات طويلة، إلى أن تأكدت وفاته داخل السجون بعد تحرير البلاد وخروج المعتقلين.

تقول سعاد لصحيفة “الثورة”: “ليس الفقر هو الأصعب، بل أن أكون مضطرة لاتخاذ كل قرار وحدي، من المدرسة إلى الطبابة إلى دفع الإيجار. لم يعد هناك من أشاركه الهم”.

تحاول سعاد منذ سنوات الجمع بين دوري الأم والأب في آن واحد. تعمل لساعات طويلة، وتتنقل بين تلبية طلبات الزبائن ومتابعة شؤون المدرسة وتأمين احتياجات أبنائها.

تقول: “أحياناً أشعر أن أولادي يكبرون قبل أوانهم. ابني الأكبر بات يرى نفسه المسؤول الأول عن البيت، يعمل في أحد المطاعم بدوام مسائي بعد انتهاء المدرسة، وهذا يوجع القلب، لأن طفولته ضاعت”.

ورغم ثقل الأعباء، تمثل سعاد نموذجاً لآلاف النساء اللواتي تولين مسؤولية أسر كاملة بعد غياب الأزواج، فبعضهن فقدن أزواجهن في الحرب، وبعضهن ما زلن ينتظرن خبراً منذ سنوات، فيما تعيش أخريات وحدهن بعد اضطرار الرجال إلى الهجرة بحثاً عن العمل أو الأمان.

وفي مدرسة صغيرة قرب مدينة اعزاز شمالي حلب، يروي مصطفى حيدر (12 عاماً) قصته مع غياب والده الذي هاجر إلى أوروبا قبل أربع سنوات ولا يزال غير قادر على لمّ شمل أسرته حتى الآن. يقول مصطفى: “أمي دائماً متعبة. أحاول مساعدتها قدر استطاعتي، لكنني أحياناً أشعر بأن هناك شيئاً ناقصاً. لا أعرف إلى من ألجأ عندما أحتاج إلى نصيحة تتعلق بأمور الصبية أو حتى بالرياضة. أشعر بالانكسار وكأني بلا سند”.

وتوضح والدته نهى (33 عاماً) أن أكثر ما يقلقها هو الصورة التي تتكون في ذهن ابنها عن مفهوم الرجولة بعد غياب النموذج الأبوي عن حياته اليومية، مضيفة: “أخشى أن يكبر وهو يتلقى مفهوم الرجولة بصورة مشوهة من الشارع أو الإنترنت. فالأب ليس مجرد فرد في العائلة، بل هو قدوة وسلطة تربوية”.

وفي ظل هذا الغياب، برزت لدى كثير من الأسر أدوار جديدة تتولاها الأمهات، إذ أصبحن يشرفن على مهام كانت تعد تقليدياً من اختصاص الأب، كمتابعة الشؤون المالية، وإدارة العلاقات مع الجيران والأقارب، ومرافقة الأطفال إلى المواعيد المختلفة، وحتى ضبط السلوكيات المنحرفة لدى المراهقين.

آثار نفسية عميقة تتجاوز حدود الفقد المادي

المرشد النفسي محمود العبد الله يقول: إن آثار غياب الأب تتفاوت تبعاً لعمر الطفل وطبيعة الغياب. فالأطفال الذين فقدوا آباءهم بسبب الوفاة يعيشون حزناً حاداً، لكنهم مع الزمن يدركون أن الفقد نهائي، أما الأطفال الذين اختفى آباؤهم قسرياً أو غادروا دون إمكانية تواصل دائم، فهم عالقون في منطقة ضبابية مؤلمة، لا يعرفون فيها إن كان الأمل مشروعاً أم الأجدر إغلاق الباب.

ويشير العبد الله في تصريح لصحيفة “الثورة” إلى أن غياب الأب يترك فراغاً عاطفياً عميقاً، فالطفل يبني جزءاً أساسياً من شخصيته على صورة الأب ونموذجه. وحين يغيب هذا النموذج، يصبح البناء النفسي هشاً، قابلاً للتشوش أو الاستعاضة عنه بنماذج غير صحية.

ويضيف: إن كثيراً من الأطفال يعانون في هذه الظروف من زيادة القلق والخوف من المستقبل، وصعوبة ضبط السلوك، وميل أكبر للعزلة أو العدوانية، إلى جانب تراجع في الأداء الدراسي. فالأب يشكل عادة توازناً داخل الأسرة، وهو مصدر للانضباط والإرشاد، وفي غيابه يتسع المجال أمام مؤثرات خارجية أقوى، خصوصاً في البيئات الفقيرة والمليئة بالعنف.

ويشدد العبد الله على أن الدعم النفسي للأمهات لا يقل أهمية عن دعم الأطفال، لأن الأمهات يتحملن أعباء مضاعفة وضغطاً غير طبيعي في إدارة الأسرة وحدهن.

أرقام مقلقة وبرامج دعم محدودة الإمكانات

من جهة أخرى، يقول معاون مدير الشؤون الاجتماعية والعمل في إدلب، عبد الرحمن الجنيد: إن المديرية تمتلك تقديرات رسمية وشبه رسمية جُمعت عبر الفرق المجتمعية وبالتعاون مع المجالس المحلية والمنظمات، تشير إلى أن نحو 35% من أسر محافظة إدلب فقدت معيلها بسبب الوفاة أو الاعتقال أو الهجرة، مع نسب أعلى في المناطق التي شهدت نزوحاً أو عمليات عسكرية سابقة.

ويضيف الجنيد لصحيفة “الثورة” إن نسبة الأسر التي تعيلها نساء ارتفعت إلى ما بين 18% و22%، بعدما كانت لا تتجاوز 5% قبل عام 2011، معتبراً أن ذلك “يعكس عمق التحولات الاجتماعية التي فرضتها الحرب”.

وحول برامج الدعم، يوضح الجنيد أن المديرية تنفذ بالتعاون مع المنظمات الإنسانية مجموعة من التدخلات التي تركز على التمكين الاقتصادي والدعم النفسي. وتشمل هذه التدخلات مساعدات نقدية طارئة، وتدريبات مهنية في الخياطة والحلاقة والتصنيع الغذائي، إضافة إلى جلسات دعم نفسي فردية وجماعية للنساء المتأثرات بفقدان الزوج.

أما آليات اختيار المستفيدين، فيوضح أنها تعتمد على معايير واضحة تشمل عدد أفراد الأسرة، ووجود معاقين أو كبار سن، وغياب المعيل، والوضعين الاقتصادي والصحي، مع إجراء تحقق ميداني لضمان الشفافية، مشيراً إلى أن آثار غياب الأب تمتد إلى التعليم والسلوك، إذ ترصد المديرية ارتفاعاً في التسرب المدرسي وازدياداً في عمالة الأطفال ضمن الأسر التي فقدت معيلها، وهي ظاهرة يصفها بأنها “مقلقة وتهدد مستقبل الأطفال”.

آخر الأخبار
عن المجتمع المدني والمرأة في المرحلة الانتقالية  ضمن نتائج حملة "فداءً لحماة".. المحافظة تطلق مشاريع خدمية لتمكين عودة الأهالي اعتقال 120 متورطاً باعتداءات حمص والداخلية تعلن إنهاء حظر التجول مدير الشؤون الصينية في وزارة الخارجية: إعادة فتح سفارة الصين بدمشق مطلع 2026 من بداية 2026.. سوريا والأردن يتفقان على توسيع التبادل التجاري دون استثناء الجناح السوري يتصدّر "اليوم الثقافي" بجامعة لوسيل ويحصد المركز الأول السيدة الأولى تحضر قمة "وايز 2025" في أول نشاط رسمي لها سوريا والجامعة العربية.. عودة تدريجية عبر بوابة التدريب العسكري دمشق تحتضن ملتقى الموارد البشرية.. مرحلة جديدة في بناء القدرات الإدارية في سوريا  الخارجية تستقبل أرفع وفد سويدي لمناقشة ثلاثة ملفات توغل إسرائيلي جديد في ريف القنيطرة وعمليات تجريف واسعة في بريقة لتعزيز الجودة القضائية.. وزير العدل يشارك بفاعلية في الرياض أردوغان: أنقرة لا تحمل أي نزعة للتوسّع في سوريا جيل بلا آباء.. تداعيات غياب الرجال على البنية الاجتماعية والأسر في سوريا ترخيص أكثر من 2700 منشأة خلال تسعة أشهر بلودان والزبداني تعيدان ابتكار السياحة الشتوية.. الطبيعة أولاً والثلج ليس شرطاً "استثمار تاريخي بقيمة أربعة مليارات دولار".. توقيع العقود النهائية لتحويل مطار دمشق الدولي إلى مركز ... هل ما جرى في زيدل جريمة جنائية بلبوس آخر.. أم أنه مخطط فاشل لإحياء رواسب الماضي؟ وفد اللجنة العليا لانتخابات مجلس الشعب يبحث في التجربة الأردنية إشهار العملة الجديدة في عيد التحرير.. والإصدار نهاية العام