الثورة – علي إسماعيل:
صباح الأحد 23 تشرين الثاني/نوفمبر 2025 لم يكن عابرا في حمص، المدينة التي تحمل في ذاكرتها طبقات كثيفة من الألم استيقظت على جريمة قاسية في بلدة زيدل جنوبها: رجل وزوجته قُتلا داخل منزلهما، وعُثر على الزوجة وقد أُحرقت جثتها، فيما ظهرت على الجدران عبارات ذات طابع طائفي كُتبت بالدم.
التفاصيل كانت صادمة بما يكفي لتشعل الخيال الشعبي قبل أن تشعل الشارع، لكن ما حدث بعد ذلك كان أكثر دلالة من الجريمة نفسها: ارتباكٌ قديم تحرك في الأعصاب، ثم انكفأ سريعا أمام تدخل أمني واسع واستجابة أهلية حذرة، وكأن المدينة تعرف مسبقا إلى أين يمكن أن يأخذها هذا النوع من الشرر إن تُرك وحده.
منذ اللحظات الأولى، تعاملت القوى الأمنية مع الحادثة بوصفها جريمة جنائية تستدعي تحقيقا ميدانيا صارما.
قائد الأمن الداخلي في حمص العميد مرهف النعسان أعلن تطويق مكان الحادث وجمع الأدلة وفتح تحقيق موسّع، مع دعوة الأهالي إلى ضبط النفس وترك الأمر للمباحث.
وبعد ساعات خرج المتحدث باسم وزارة الداخلية نور الدين البابا ليقول إن لا دليل ماديا حتى الآن على طابع طائفي للجريمة، وإن العبارات التي وُجدت في المكان تبدو محاولة تضليل هدفها إثارة الفتنة والتعمية على الفاعل الحقيقي.
هذا الكلام بظاهريته، كان محاولة لإعادة الحادثة إلى مسارها الطبيعي قبل أن تتلقفها الشائعات.
على الأرض، ظهرت ردود فعل غاضبة من بعض أبناء قبيلة بني خالد التي ينتمي إليها الضحيتان، واتجهت مجموعات مسلحة إلى أحياء ذات غالبية علوية قريبة من موقع الجريمة مثل حي المهاجرين وضاحية الباسل وأوتوستراد الستين، وأقدم بعضهم على حرق سيارات ومحال وأكشاك محروقات وإطلاق نار عشوائي.
المشهد بدا كأنه نسخة قصيرة من سنوات سابقة، لكن الفارق أن الانفلات لم يُترك ليتضخم. تدخلت قوات الأمن لتفريق المهاجمين وتثبيت نقاط الانتشار، وساهم الوجهاء والعشائر ورجال الدين في تهدئة الموقف. حتى ذوو الضحايا أنفسهم أعلنوا رفضهم تحويل المأساة إلى باب للثأر أو الفتنة، في إشارة مبكرة إلى أن الألم لا يعني بالضرورة السير إلى النهاية ذاتها كل مرة.
المدينة عرفت أيضا وجها آخر للاستجابة، فبعد ساعات من الجريمة، عقدت المحافظة اجتماعا طارئا ضم قيادات عسكرية وأمنية، وأمينها العام ومدير الشؤون السياسية، مع ممثلين عن العشائر ودار الإفتاء والأوقاف.
كانت رسالة الاجتماع بسيطة في ظاهرها: لا أحد يملك ترفا ترك الشارع وحده. وفي السياق نفسه مُدد حظر التجول حتى عصر الاثنين في أحياء واسعة من الجنوب والوسط، من العباسية والأرمن والمهاجرين والزهراء والنزهة وعكرمة وصولا إلى زيدل وكرم الزيتون وكرم اللوز والورود ومساكن الشرطة، ثم أُعيد فتح الطرق تدريجيا مع عودة الهدوء الحذر.
إجراءات كهذه لم تكن لتحل المشكلة من جذورها، لكنها منعتها من التمدد على الأقل.
على المنصات، خرجت شخصيات رسمية بمواقف تحذر من تحويل الجريمة إلى مادة تعبئة، وتؤكد أن الدولة تقف على مسافة واحدة من الجميع، وأن العدالة والإنصاف هما الطريق الوحيد لتثبيت السلم الأهلي. مثل هذه العبارات ساهمت في كسر منطق الشائعة والتخوين الذي اعتادته البلاد سنوات طويلة، خصوصا في مدينة لا تحتاج سوى شرارة صغيرة كي تشتعل إذا تركت، بعد عهود من سياسة اتبعها النظام المخلوع في خلط أوراقها محليا ومجتمعيا.
بعد سقوط النظام وانهيار مركز قيادته، شهدت حمص جولات عنف عند حاجز ملوك وغيره، قادتها قوات رديفة محلية ذات طابع طائفي قبل أن تُهزم وتتراجع إلى الريف.
هذا المشهد أعاد إلى السطح سؤالا بديهيا: ماذا تفعل دولة جديدة أمام مدينة جُرِّبت فيها سياسة “فرّق تسد” لعقود؟ وكيف تُقنع مجتمعا بأن السلم الأهلي ليس تسوية مع الألم، بل طريق للخروج منه؟،
لذلك بدت التهدئة التي حصلت في الأشهر الماضية تهدئة أمنية أكثر منها مصالحة اجتماعية، لكن ثمّة أيضا تغير في تكتيكات المجموعات المرتبطة بفلول النظام أو شبكات مصالح قديمة.
بعد فشل الاستثمار الطائفي الواسع في الساحل، والتهدئة التي تبلورت في السويداء، صار رهانهم على حمص أكثر، فهنا يستطيعون اللعب على الذاكرة، وعلى تماس جغرافي مع ريف غربي قريب من لبنان وتلكلخ، وعلى شبكة اقتصادية واجتماعية متداخلة، أي حادثة ذات ظلال طائفية تمنحهم فرصة لإعادة تجميع أنفسهم وعرقلة مسار الاستقرار.
من هذه الزاوية، تبدو جريمة زيدل أشبه بمحاولة لاختبار قابلية المدينة للاشتعال، هل هي جريمة جنائية أُلبست ثوبا طائفيا خوفا أو عمدا؟ أم جزء من خطة لاستدعاء الماضي؟ التحقيق وحده سيحسم، لكن ما يمكن قوله الآن إن خيط “التطييف” الذي ظهر في موقع الجريمة لم يكن بريئا في أثره حتى لو لم يكن جزءا من الدافع الحقيقي للقتل. كُتب ليقوم بدور معيّن: تسريع الغضب إلى الشوارع، وإعطاء الفاعل أو المستفيد مساحة للهروب.
ومع ذلك، لا يمكن التخفيف من حقيقة أن الانقسام المجتمعي موجود فعلاً في حمص. تفسير مقوماته لا يعني تبريره، لأن المسألة تمس وظيفة الدولة الجامعة ومعناها الأخلاقي. مدينة كهذه تحتاج وقتا طويلا لتفكيك رواسب الخوف والتمييز، وما يقع فيها اليوم من حوادث متوقَّع وربما ستقع حوادث أخرى، ليس لأن الناس “سيئون”، بل لأن الندوب الاجتماعية لا تلتئم بخطاب واحد أو دعوات تهدئة.
في المقابل، هناك فرق مهم بين العنف المجتمعي والعنف السياسي. نعم، المجتمع يملك مقدارا من الاحتقان والكراهية، ويملك خطابا طائفيا كامنا يمكن أن يتحول إلى فعل، لكن لا تظهر حتى اللحظة ملامح “عنف دولة” ضد مكوّن بعينه، بالعكس الدولة الجديدة هي أكثر المتضررين من الفوضى، لأنها تحتاج استقرارا ضروريا لأجندة إعادة الإعمار والتنمية وإعادة بناء المؤسسات.
لذلك يصبح منع الانتقام والثأر جزءا من حماية المجتمع والدولة معا. قد تكون الحكومة قصّرت في بعض المواضع خصوصا حين ركزت على المقاربة الأمنية أكثر من الأدوات السياسية والاجتماعية، لكن السياق الزمني قصير نسبيا، والشرط الأمني غالبا ما يكون مقدمة لأي عمل مدني طويل النفس: عدالة انتقالية، مصالحة محلية، تنمية عادلة، وسياسات تعليم وثقافة تُذيب بالتدريج فكرة “الأحياء الخاصة”.
ما حدث في زيدل يذكّر بأن حمص لا تزال تقف في منطقة بين ماضٍ شديد الثقل ومستقبل يحاول أن يتشكل. النجاح في احتواء التوتر خلال ساعات لم يلغِ الجريمة، لكنه منع تحويلها إلى مواجهات مفتوحة. وهو أيضا إشارة غير مباشرة إلى أن المدينة، على اختلاف أهلها، بدأت تتمرن على إدارة الخلاف لا على تحويله إلى اقتتال.
حين ساعد الوجهاء والعشائر في التهدئة، وحين التزم كثير من الناس بحظر التجول، وحين رفضت عائلة الضحايا الثأر، كانت هذه علامات صغيرة لكنها ذات معنى.
معظم الجرائم التي حصلت في سوريا بعد التحرير، كانت تتزامن في توقيت تتحضر فيه الدولة السورية الناشئة لاستحقاقات دولية وانفتاح اقتصادي وسياسي يعيد الألق للمواطن السوري بعد نجاح دبلوماسي منقطع النظير في طريق التعافي الشامل.
لكن، في الأيام القادمة ستتكشف تفاصيل التحقيق، وربما سيظهر أن الجريمة جنائية بحتة، وربما سيظهر أن وراءها من أراد استدعاء شبح الطائفية.
في الحالتين يبقى الدرس واحدا: من يريد أن يمد فتيل الفتنة في حمص يعتمد على ذاكرة مُتعبة، لكن هذه الذاكرة نفسها صارت تعرف أن النار لا تميّز بين بيت وبيت. بين زيدل وكرم الزيتون والزهراء والمهاجرين والريف الغربي، هناك جغرافيا واحدة لحياة الناس.
استقرارها لا يُصنع بالإنكار ولا بالتخوين، بل بتراكم بطيء من العدالة والمعنى والثقة، وبأن يتعلم الجميع، مرة بعد مرة، أن الخروج من الماضي لا يكون بالعودة إليه كلما وقعت جريمة، بل بأن تُترك العدالة تأخذ مجراها، وتُترك المدينة تتنفس خارج قفص الخوف القديم.