كيف حول النظام المخلوع سوريا إلى مقبرة جماعية؟

الثورة – فؤاد الوادي:

يوماً بعد يوم، تتكشف أهوال الجريمة التي ارتكبها النظام المخلوع في حق الشعب السوري طيلة خمسة عقود، فالمقابر الجماعية التي تنتشر على امتداد سوريا تؤكد هذه الحقيقة وتعكس حجم الفاجعة التي ألمت بسوريا منذ وصول “النظام الأسدي” إلى سدة الحكم.

سياسات ممنهجة لتصفية كل المعارضين والثائرين ضد ذلك النظام الذي كان لا يعبأ لأي قيم إنسانية أو أخلاقية، فكان يدمر المدن والأحياء فوق ساكنيها، ويعتقل ما تبقى منهم، ثم يقوم بقتلهم وتصفيتهم في معتقلاته بأبشع وسائل القتل والتعذيب، وبعد ذلك يقوم بدفنهم في مقابر جماعية وبشكل سري وممنهج.

منظومة من الإجرام

منذ سقوط النظام المخلوع في الثامن من كانون الأول/ديسمبر الماضي، أي قبل نحو عام تقريبا، بدأت تكتشف المقابر الجماعية في مختلف أنحاء سوريا، في دلالة على الوحشية والديكتاتورية التي كانت سائدة لنحو خمسين عاما، ضمن منظومة إجرام متكاملة الأركان كانت تتولى تصفية المعارضين في ظلمة المعتقلات ودفنهم في أماكن مجهولة بدأت تتكشف تباعا، وأغلبها بالصدفة، نظرا لقربها من المدن والقرى والتجمعات السكنية.

وعلى إثر الاكتشافات المتلاحقة للمقابر الجماعية تعهدت الدولة الجديدة، وعلى لسان الرئيس الشرع، بملاحقة المجرمين والمسؤولين عن ارتكابها، حيث تم الطلب رسميا من الأمم المتحدة المساعدة في توثيق جرائم النظام المخلوع، كما خصصت الحكومة خطا ساخنا للمواطنين والسجناء السابقين للإبلاغ عن أماكن السجون السرية وأماكن الدفن المحتملة.

المحامي عماد علوش أكد في تصريح خاص لـ”الثورة السورية”، أن المقابر الجماعية دليل حي وثابت على المجازر والجرائم التي ارتكبها النظام المخلوع.

وباعتبارها مسرح جريمة لا ينبغي التلاعب بها، إلا بحضور خبراء أدلة جنائية، حتى يتم توثيقها وتقديمها إلى المحاكم المختصة لمحاسبة مرتكبي هذه الجرائم وأخذ جزائهم العادل.

أمام هول هذه المأساة تحاول دمشق الاضطلاع بمسؤولياتها على أكمل وجه، من خلال التعاون مع المنظمات والمؤسسات الدولية المختصة بهذا الشأن بهدف تسريع عمليات التعرف على هوية الضحايا وإنصافهم.

لكن هذا الأمر يتطلب بحسب المحامي علوش سنوات لصعوبة الأمر، وتعقيداته في ظل محدودية الإمكانات البشرية وغياب الأدوات والمعدات اللوجستية الدقيقة للقيام بهذه العملية، والتي تقدر تكلفتها بملايين الدولارات.

ضاعفت التحديات

خلقت المقابر الجماعية تحديات وعراقيل إضافية في طريق الدولة الجديدة التي تسعى للنهوض والتعافي، ذلك أن اكتشاف عشرات آلاف الجثث وضع الدولة الجديدة أمام مهمة من نوع مختلف وتكاد تكون شبه مستحيلة للتعرف على الضحايا ومعرفة هوياتهم، وسط حالة ضاغطة أنتجتها، من جهة، مأساة الانتظار التي يعيشها ذووهم لمعرفة أين دفنوا وكيف قضوا، وأنتجتها، من جهة أخرى، الأحداث والتطورات التي أعقبت التحرير، لاسيما تلك التي حاولت خلال الأشهر الماضية، ولا تزال، خلق الفتن وإثارة النزاعات والفوضى وضرب مقومات الوحدة الوطنية.

وهو الأمر الذي دفع الحكومة السورية في الـ17 من أيار/مايو الماضي إلى تشكيل “الهيئة الوطنية للمفقودين” لكشف مصير آلاف المختفين قسرا، و”الهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية” المعنية بكشف الحقيقة حول الانتهاكات الجسيمة ومساءلة المسؤولين عنها وجبر الضرر الواقع على الضحايا.

كما وقعت الهيئة الوطنية للمفقودين مذكرة تفاهم مع اللجنة الدولية لشؤون المفقودين (ICMP) في الـ18 من تشرين الثاني/نوفمبر الجاري لتعزيز التعاون التقني والمهني، إضافة إلى إعلان مشترك في الخامس من الشهر ذاته مع اللجنة الدولية للصليب الأحمر (ICRC) والمؤسسة الدولية المستقلة للمفقودين (IIMP)، لدعم العملية الوطنية الرامية إلى توضيح مصير المفقودين في سوريا بغض النظر عن ظروف اختفائهم أو انتماءاتهم.

محاسبة مرتكبي المجازر

لم تعد المقابر الجماعية مجرد دليل وشاهد على جرائم النظام المخلوع فحسب، بل تجاوزت ذلك لتبقي الجرح مفتوحا حتى يتم تحديد هويات الضحايا ومحاسبة المجرمين، وهذا لن يتحقق إلا بتطبيق وتحقيق العدالة الانتقالية كونها السبيل الوحيد لإنصاف الضحايا وذويهم والتئام الجرح.

وفي هذا السياق فقد وثق المركز الدولي للعدالة الانتقالية، إلى جانب مجموعة “محامون وأطباء من أجل حقوق الإنسان” السورية، حتى الآن 134 مقبرة جماعية، مع دلائل على وجود المزيد لم يكشف عنها بعد.

ويؤكد باحثون سياسيون أنه لا يمكن تجاهل حقيقة أن المفقودين والضحايا كانوا جزءا أساسيا من المأساة والحراك الثوري السوري، وأن العثور عليهم وتحديد هوياتهم واجب وطني وخطوة مهمة في انتقال سوريا إلى مرحلة النهوض والبناء وإعادة الإعمار.

وفي هذا السياق قالت صحيفة “وول ستريت جورنال” الأميركية في تقرير لها أمس إن النظام المخلوع حول سوريا إلى موقع دفن جماعي يضم جثث آلاف الضحايا من المغيبين قسرا والمعتقلين الذين قضوا في السجون.

وأوضحت أن كثيرا من هذه المقابر يكتشف بالصدفة، سواء أثناء أعمال إزالة أنقاض المنازل المدمرة أو خلال عمليات البحث في الأراضي الزراعية، وتتراوح بين حقول واسعة تضم عشرات آلاف الضحايا الذين قضوا في عمليات قتل منهجية، وأخرى أصغر تحتوي على عشرات الجثث فقط.

وأشارت الصحيفة الأميركية إلى أن المقابر الجماعية وتشابك جرائم القتل الممنهج خلقت واحدة من أعقد التحديات أمام دولة تسعى للتعافي من حكم استبدادي، فالعائلات ما زالت تعيش مأساة مفتوحة لا تعرف أين دفن أبناؤها أو كيف قضوا، ما يجعل الألم مضاعفا ويحول دون الوصول إلى السكينة.

فيما يمثل تحديد هوية الضحايا مهمة شبه مستحيلة، إذ تحتاج اللجنة الوطنية السورية للمفقودين إلى جيش من الخبراء الشرعيين ومعدات لفحص الحمض النووي وموارد تقدر تكلفتها بنحو 200 مليون دولار.

وكالة “رويترز” أكدت في تقرير لها نشرته في السادس عشر من تشرين الأول/أكتوبر الماضي اكتشاف مقبرة جماعية في منطقتي القطيفة والضمير تضمان رفات آلاف الجثث التي نقلها النظام المخلوع سرا بالشاحنات.

واستخدمت “رويترز” التصوير الجوي بالطائرات المسيرة للتأكد من نقل الجثث، وبإشراف خبراء في الجيولوجيا الجنائية، حيث أظهرت الصور الدقيقة أن التربة غير المستوية حول خنادق الدفن كانت أكثر احمرارا وقتامة من المناطق المجاورة المستوية، وهو نوع التغيير المتوقع إذا أضيفت تربة القطيفة إلى تربة صحراء الضمير، وفقا لما ذكره بنجامين روك ولورنا داوسون الخبيران الجيولوجيان اللذان قدما المشورة لـ “رويترز”.

وتنتشر المقابر الجماعية في أنحاء سوريا، لكن الموقع السري الذي اكتشفته “رويترز” يعد من بين أكبر المواقع المعروفة، ومع ما لا يقل عن 34 خندقا يبلغ طولها الإجمالي كيلومترين، تعد المقبرة الواقعة بالقرب من بلدة الضمير الصحراوية من بين أوسع المقابر التي تم حفرها خلال سنوات الثورة السورية.

مجازر شاهدة على الوحشية

ويتزايد عدد المقابر الجماعية المكتشفة من فترة إلى أخرى، في وقت تشير فيه التقديرات إلى وجود عشرات آلاف المخفيين الذين لم يعرف مصيرهم بعد.

وفي تقديرات حكومية تم اكتشاف 16 مقبرة حتى الآن في مناطق سورية مختلفة، حيث استخدم النظام المخلوع مناطق متفرقة لدفن الضحايا بشكل جماعي.

ففي منطقة القطيفة على بعد 70 كيلومترا شمالي العاصمة دمشق اكتشفت أكبر مقبرة جماعية، حيث تشير تقارير صحفية إلى أن عدد المدفونين هناك يقدر بعشرات الآلاف.

وفي معضمية الشام وعلى بعد 30 كيلومترا جنوب دمشق تكشفت مقابر جماعية لآلاف المدنيين الذين كان يقوم بتصفيتهم الفرقة الرابعة وفرع المخابرات الجوية.

وفي حي القابون وبالقرب من مشفى تشرين العسكري اكتشفت، بحسب شهود عيان، مقبرة جماعية محاطة بمنطقة ملغمة، مما حال دون اقتراب فرق الدفاع المدني من المكان.

وقرب قصر المؤتمرات توجد حفائر استخدمت قبورا جماعية، وعلى بعد مئات الأمتار فقط تقع مقبرة الحسينية التي تظهر فيها حفائر طويلة معدة للدفن الجماعي، وتؤكد شهادات الشهود أن عمليات الدفن هناك كانت تتم بشكل دوري.

ولجهة الشمال من دمشق عثر على رفات أشخاص اعتقلوا على مدار الأعوام الماضية، وضع بعضها في أكياس تحمل أسماء أو أرقاما فقط.

ويقدر أن الجثث الموجودة في مقبرة منطقة جسر بغداد تعود إلى مدنيين قتلوا أثناء التعذيب في سجون النظام المخلوع المنهار، ومن بينها سجن صيدنايا، حيث عثر على أكياس يعتقد أنها تحتوي على رموز السجون وأسماء القتلى في حفر طويلة وعميقة لجثث مدفونة بعضها فوق بعض.

وفي مدينة الصنمين بمحافظة درعا عثر الأهالي في محيط الفرقة التاسعة على مقبرة جماعية، وبعد حفر المقبرة تبين أنها تحتوي على بقايا جثث مدفونة وعظام وملابس.

كما عثر الأهالي في أطراف مدينة إزرع بريف درعا الأوسط على مقبرة مشابهة في مزرعة الكويتي، وتبين أن الجثث تعود لأكثر من 10 أعوام عندما كانت المنطقة تحت سيطرة ميليشيات تابعة لفرع الأمن العسكري، وتم استخراج 31 جثة، بينها نساء وطفل.

وفي قرية أم القصور عثر على مقبرة جماعية في محيط القرية الواقعة على الحدود الإدارية بين درعا وريف دمشق.

وفي محافظة حلب أعلنت وزارة الداخلية في تموز/يوليو الماضي عن اكتشاف مقبرة جماعية في المدينة تضم نحو 400 جثة على الأقل، حيث تم العثور على 5 مقابر جماعية في المدينة، في حين أظهرت وثائق رسمية أن الآلاف من ضحايا التعذيب دفنوا في تلك المقابر.

ووفقا لما نقله شهود عيان فقد دفنت 7 آلاف جثة في خان العسل غربي حلب، ومعظمها لمدنيين ماتوا تحت التعذيب، كما أظهرت وثائق أن 1500 معتقل ماتوا تحت التعذيب دفنوا في مقبرة حلب الجديدة، و1200 معتقل آخرين دفنوا في مقبرة نقارين بمدينة حلب.

وفي حمص أعلن الدفاع المدني السوري في أيار/مايو الماضي عن العثور على 3 مقابر جماعية جديدة في قرية القبو بريف حمص وسط سوريا، وأكد أن عناصره انتشلوا 20 جثة.

وفي شباط/فبراير الماضي نشر تقرير يوثق العثور على سبع عشرة مقبرة جماعية في مناطق متفرقة من سوريا، أي بعد نحو شهرين من سقوط النظام.

المقابر المكتشفة تحتوي على رفات ألف وستمئة واثنتين وثلاثين ضحية، من بينهم أطفال ونساء، وتوزعت المقابر الجماعية المكتشفة في عدد من المحافظات، حيث اكتشف في دمشق وريفها أربع مقابر، وخمس في دير الزور، وأربع في حمص، وثلاث في درعا، وواحدة في حماة.

وتشير التقديرات إلى مقتل مئات الآلاف من السوريين منذ بداية الثورة السورية عام 2011، حيث انتهج النظام المخلوع عمليات تصفية وقتل جماعي داخل المعتقلات والسجون.

آخر الأخبار
هل ما جرى في زيدل جريمة جنائية بلبوس آخر.. أم أنه مخطط فاشل لإحياء رواسب الماضي؟ وفد اللجنة العليا لانتخابات مجلس الشعب يبحث في التجربة الأردنية إشهار العملة الجديدة في عيد التحرير.. والإصدار نهاية العام قطر تحتضن فريق الطوارئ والكوارث السوري للأزمات كيف حول النظام المخلوع سوريا إلى مقبرة جماعية؟ من حلب حتى اللاذقية.. حملة أمنية ضد خلايا "داعش" وزارة التنمية تبدأ إعداد قادة التحول الرقمي عبر برنامج أكاديمي يستهدف الإداريين والتقنيين 1.65 مليون برميل.. منحة النفط السعودية تشغل المصافي وتخفف أزمة الطاقة الإعلان عن تظاهرة "أفلام الثورة السورية" في دورتها الثانية.. جهاد عبده: على الأفلام المشاركة تحقيق س... "هدية" رحلة التحدي نحو سينما تسعى للتغيير أي مستقبل نريده.. يضمن اتزان الأطفال قبل تعليمهم؟ الوزير الشيباني: شروط سوريا ثابتة وهذا موعد توقيع الاتفاق الأمني مع إسرائيل تضمنت 28 بنداً.. ما الذي نعرفه عن خطة ترامب لوقف الحرب الروسية الأوكرانية؟ بنية هشة وإمكانات محدودة تثقل كاهل سكان ريف دمشق مع قدوم الشتاء وزارة الدفاع تشارك في فعاليات هيئات التدريب بالجامعة العربية بيت سحم بين تراجع الخدمات وجهود المعالجة.. الأهالي بانتظار حلول جذرية بعد القمع والحرب.. المرأة السورية تصوغ مستقبلها الآمن الطريق إلى الوعي الغذائي.. يبدأ بمسح وطني شامل أذربيجان وتركيا تعمقان تعاونهما في الملف السوري إضرابات على بعض خطوط دمشق بعد تخفيض التعرفة.. ومؤسسة النقل تتدخل لضمان الخدمة