ثورة أون لاين – بقلم رئيس التحرير: علي قاسم:
يبدو أن واشنطن، عندما قررت طرق الأبواب الروسية، كانت قد وصلت إلى القناعة الكافية بأن ارتفاع الصوت الروسي يمتلك رصيداً من المصداقية، تخوّله ليكون نقطة الفصل بين مرحلتين، وربما منعطفاً جوهرياً في سياق التحولات التي تشهدها المنطقة والعالم،
وأن المسألة قد تخطّت الحسابات التكتيكية المعتادة، لتصل إلى الاستراتيجيات الاستثنائية التي تتطلب معايير ومعادلات تفصيلية، لا تصلُح معها سياسة قص المواقف أو لصقها بمقص واحد.. وعلى سطح واحد.
الأوضح من ذلك.. أن تبادر واشنطن إلى النقاش من زاوية كانت مغلقة في الخطاب الأميركي ومقفلة على الطرح، والذي دفع بكيري إلى تقديم مواربة لم تستطع أن تخفي ما خلفها، وما تمليه من شروط إضافية تقتضي العمل في سياقات موازية، لا تنفي الأهداف والأجندات الفعلية لسيناريو العمل الأميركي بنسخته المعدَّلة، والتي تؤشر إلى مراجعة أميركية ولو كانت ملامحها آنية أو مؤقتة، أو محاولة للنفاذ من عنق الزجاجة الذي يتخندق في أفق خياراتها الأخرى.. ما جُرِّب منها وما لم يُجرَّب بعد!.
فالاضطرار الأميركي بشكله الظاهري يخفي خلفه عوامل إضافية، تدفع أميركا إلى إعادة تدوير زوايا المناكفة مع الروسي على قاعدة أن الحضور الروسي بهذه المساحة لا ينطلق من فراغ، ولا يبني خطواته في الفراغ، وأنه يتعاطى مع الأشياء كما هي، ومع الوقائع والحقائق الماثلة على الأرض وفق ما هو قائم من منطلق المبدئية الروسية التي خَبرتها واشنطن، وتنطلق فيها من اعتبارات الحرص الفعلي على الاستقرار في العالم، حتى لو كرهت أميركا ذلك.
والمهادنة الأميركية بمشاهدها المختلفة لا تعكس بالضرورة رغبة في البحث عن مكافحة للإرهاب وفق المنطوق الروسي والحاجة الفعلية لمواجهة مخاطره، لكن حكم الأمر الواقع يدفع إلى الأخذ بمحددات الديماغوجية الأميركية ومخارجها العلنية، في خطوة تستدرك عنق الزجاجة، مستندة إلى يقين بأن روسيا لا تريد أن توصل الأمور إلى تلك اللحظة بقدر ما تسعى إلى توفير زوايا مداورة، تتيح الانعطافة مع الحفاظ على ماء الوجه، ولا تتردد في تقديم السلّم، كلما اعتلت أميركا الشجرة أبعد مما هو متاح أو ممكن.
على هذه القاعدة يبدو المشهد مفتوحاً على احتمالاته المختلفة، أساسها وجوهرها أن ما يساق من قراءات غربية وإقليمية مشتقة منها، ليس أكثر من تسرّع في الاستنتاجات، وفي أغلبها تعتمد على ظواهر خادعة تحاول ما أمكن أن تصطاد في الماء العكر، لترجيح كفّة المساءلة السياسية الناتجة، حيث التهويل الغربي من الحراك الروسي الميداني والسياسي يشكل المنصة الأكثر وضوحاً في التعاطي مع المخاوف والهواجس المنطقية، التي تبرز إلى العلن، وفق نماذج من التشكيك بسياقات ما أنتجه ذلك الحراك، ولا تغفل الغمز من القناة الأميركية، وبعضها يجزم بأن أميركا ليست بصدد تغيير دراماتيكي بقدر ما تتعاطى مع المسألة من باب المناورة، وأن النفاق الذي اعتاده الأميركي سيبقى العامل الأهم في مفردات خطابه، حتى لو تبدّل بعضها أو استعاضت عن جزء منها بأخرى جديدة أو مستنسخة من لغة التضليل المعتادة.
لا نعتقد أن الأمر يغيب عن بال الروسي أو أنه يفكّر أصلاً في إخراجه من حساباته، لكن بالمقابل ووفق معايير المواجهة المفتوحة تتحرك روسيا من واقع الفائض في أوراق القوة، ومن فائض امتلاكها لعوامل المنطق والواقعية التي تصل إلى حدّ الإحراج السياسي للأميركي باختلاف أدواته وبتعدد حلقات حلفائه، واعتمادها على محاكاة منطق القانون الدولي وروحيته من دون تجاوز لنصه أو تأويل خاطئ لمضامينه أو تفسير مجتزأ لمدلولاته.
فالانحناءة الأميركية أمام عاصفة المواقف الروسية قد تبقى بطابعها المؤقت وبجوهرها التكتيكي، وإن بدأت تجد أن رهانها على وعود أدواتها أو حذلقة حلفائها يصطدم بحائط مسدود، يقفل في وجه أميركا البدائل المنطقية لمواجهة الاندفاعة الروسية نحو مشهد يبرز إلى العلن أن مكافحة الإرهاب ومواجهة المخاطر الناتجة لم تعد تصلُح كشعار، ولا تنفع أن تكون مدخلاً قسرياً لنفاق سياسي، تتكشّف وجوهه وخطوط التقاطع فيه مع المصالح الأميركية وعلاقتها بأدواتها في المنطقة وخارجها.
المحطات القادمة قد تحسم ما تم تأجيل البت فيه، وما ينتظر المنبر الأممي في جلساته السنوية قد يصلُح ليكون منطوقاً مخوّلاً بما آلت إليه العلاقات الدولية، ومنصّة لطرح أفكار تحاكي الواقع من دون مبالغة، وتضع النقاط على الحروف من دون تهويل، وروسيا ممثلة بالرئيس بوتين تحمل ما تراكم في الماضي من أوراق قوة، وما قد يفيض في لحظة الاستدارة المنتظرة التي لن تقتصر على أميركا، ولن تنحصر في أدواتها وحلفائها، بقدر ما ترسم سياقاً عالمياً تَصح فيه المحاججة على بزوغ ملامح نظام عالمي جديد، تكون مكافحة الإرهاب إحدى أدوات قوته وفق رؤية روسية تستند إلى التجربة السورية، باعتبار أنه قد يكون أهم ما يمكن للمنظمة الدولية أن تنجز محدداته بعيداً عن لغة الأطماع وخطاب المصالح.
a.ka667@yahoo.com