ثورة أون لاين- بقلم رئيس التحرير: علي قاسم
بين الممكن أميركياً والمستحيل أوروبياً تدور رحى النقاشات العبثية للطبقة السياسية الأوروبية، حيث يستدرج الجدل حول وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض المزيد من الأسئلة ذات الطابع الإشكالي المؤجل منذ عقود خلت، ويميط اللثام عن الكثير مما نجحت المنظومة الغربية في إبقائه خارج نطاق التداول على مدى تلك العقود،
خصوصاً أنَّ المقاربات شبه المتثائبة لطروحات الأوروبيين وهواجسهم ومخاوفهم تزيد من الطيش السياسي الذي يحكم ردات الفعل المتناقضة في الفضاء الأوروبي.. العسكري منه والسياسي.
فالواضح أنَّ الأوروبيين لا يزالون تحت وقع الصدمة، وإنَّ الاستيقاظ المتأخر بحثاً عن بدائل تصلح لملء شواغر تتسع لدى أنساق السياسة الأوروبية لن يُعدّل كثيراً في مواقيت الاستحقاقات القادمة على الساحة الدولية، وفيها الكثير من الخروج على النص المعتاد أو التقليدي المعمول به في عقود الحقبة الأميركية، وهو ما أوقع بعض الساسة الأوروبيين في محظورات الحديث عن خفايا ونتف العلاقة الأميركية الأوروبية وما قد تؤدي إليه من انزلاقات تراكم من حالة التجاذب، حيث الأميركي المنشغل بارتدادات الواقع الجديد واستطالاته لا يبني على ما يُطرح أوروبياً إلا بما تتطلبه حلته الجديدة القادمة من قلب اليمين، وإن كان من السابق لأوانه الحكم على التوجهات الفعلية للسياسة الأميركية، فالعرف السائد يقضي بأنَّ تصطدم المواقف الانتخابية بالواقع السياسي، وغالباً ما تتعرض لحالة انكفاء أو تغيير في الاتجاه والمسار وفقاً للظرف أو تبعاً للحالة ذاتها.
التسرع الأوروبي في إبداء المخاوف يزيد في غموض التفسيرات، لكنه لا يلغي الإجابات المنتظرة، حيث التجاذبات واللغة الصدامية وإصدار الأحكام شبه النهائية والتلويح بالبحث عن البدائل بما فيها الحديث عن العمل على تشكيل قوة أوروبية مستقلة تكون بديلاً من الناتو وإن لم تتجرأ أوروبا على مناقشتها، لا يعود إلى الخشية من أي تعديلات دراماتيكية في المواقف الأميركية فقط، بل يرتبط أساساً بمخاوف أوروبية داخلية لها أسبابها ومسوغاتها، وقد تحتمل بعض الموضوعية في جوانب جزئية ومحدودة، وتتكثف في الخشية من تكرار السيناريو الأميركي بنسخة أوروبية أكثر إيلاماً وأشد زلزلة لمكونات المنظومة الغربية، حيث ثمة أكثر من مؤشر على نزوع ذاتي وموضوعي لدى فئات أوروبية للعمل في السياق ذاته، بل كان لدى أوروبا هذا النزوع المبكر نحو اليمين بصفته التقليدية المحافظة وأحياناً المتطرفة قبل أن يتخيل أحد وجودها في أميركا.
الظهور المفاجئ والتذكير الساذج بموقع أوروبا ودورها واتهام ترامب بجهل حقيقة وجود أوروبا مثلاً، ليس مجرد ردة فعل متسرعة يمارسها بعض هواة الساسة الأوروبيين، والتي تعكس حماقة طبقة هشة من الساسة العاجزين عن فهم الأحداث، إنما تترجم تعمّداً استفزازياً بتجاهل تفاصيل الارتباط الأميركي بأوروبا، ومقتضيات العلاقة التحالفية القائمة على سطوة أميركية تتنازعها إلى حد بعيد حالة من خنوع أوروبي مريب أوصلت الكثير من مفاتيح السياسة الأوروبية إلى حالة الصدأ، بعد أن استبدلتها بنظيرتها الأميركية واستغنت عن خدماتها طوال فترة الهيمنة الأميركية.
محاولة العودة الأوروبية إلى النبش بحثاً عن المفاتيح الذاتية تأخرت كثيراً، حيث ما يحكم المنظومة الغربية وما يحدد مسارها وتوجهاتها وما يفرض شروط قراءتها ومساحات ارتباطاتها كان بنكهة أميركية صرفة، لا يستطيع أحد أن يلحظ فيها أي أثر للأوروبي، سواء كان في السياسة أم العسكرة أو حتى في المكونات، وعليه أصبح كل ما يصح في أميركا ينسحب بالضرورة على أوروبا، ومن ثم فالسحب الأميركية أو الغيم الداكن الناتج عن وصول ترامب قد يسطّر عواصف وأعاصير في السياسة الأوروبية، والخروج البريطاني المفاجئ أو الصادم من السياق الأوروبي لم يكن بعيداً عن الناتج الأميركي.
الهواجس الأوروبية من الغد الأميركي الذي سيحكمه ترامب ومن انتخبه من الأميركيين تحكمه مقولة زعيمة اليمين الفرنسي مارين لوبان بأن الممكن الأميركي يخفف من حدة المستحيل الأوروبي، لكنه لا يكفي للتغطية على فراغ سياسي يقف خلف هشاشة أوروبية ناتجة عن تآكل الطبقة السياسية الحالية، وتقزمها إلى الحد الذي باتت فيه عبئاً إضافياً على المشهد الأوروبي، وما يطفو على السطح لا يعود إلى الرغبة في مناكفة الأميركي، بقدر ما يؤطر للقناعة الذاتية وعواملها الداخلية بأنها طوال أكثر من نصف قرن افتقدت أوروبا ما يخصها في السياسة واستغنت عمّا يعنيها خارجها، إلا في حدود المطلوب وظيفياً ليظل على نسق القرار الأميركي، سواء كان بالتوازي معه أم خلفه، وحتى حين يكون سابقاً له كان في سياق النص الأميركي وليس خارجه، وأن اليمين والتطرف هو المؤهّل فعلياً لسد فراغات المخالعة مع الأميركي، وملء ما يشغر من مساحات داخل الفضاء الأوروبي، في محاكاة تستنسخ التغيير الأميركي ذاته..!!
a.ka667@yahoo.com