ثورة أون لاين – بقلم رئيس التحرير عـــلي قــاســـــــم: منذ عقود خلت والسياسة الفرنسية تفتقد بوصلتها، يتساوى فيها اليمين مع اليسار.. يتطابق الخلف مع السلف حتى في التفاصيل الصغيرة، وتتجاوز خطوط التمايز عن باقي السياسات الغربية التي ارتسمت في حقبة الستينيات والسبعينيات وصولاً إلى بداية الثمانينيات، لتقدم خلطة غير مسبوقة تفتقر إلى اللون والطعم وحتى التأثير والفاعلية.
منذ ذلك الحين والدبلوماسية الفرنسية تخرج من حفرة لتقع في غيرها، وتستبدل رؤساءها، فيترحم الفرنسيون على من سبقهم، فيما هواة السياسة فيها، الذين يتباهون باحترافهم التراقص على الألفاظ، والتلون في المواقف، يعرجون في السياسة كما يرتجون في الدبلوماسية.
اليوم، السياسة الفرنسية بزعامة هولاند وقيادة فابيوس تكاد تستعصي على الفهم من أصدقائها، وكذلك من خصومها، ليس لما تقدمه من فنون غير مسبوقة في الاستعجال، وإطلاق المواقف المتسرعة، بل في تجاوزاتها حتى للأعراف الدبلوماسية والقوانين الدولية.
فقد جاء الاقتراح الفرنسي بتزويد مرتزقة ائتلاف حمد بالأسلحة مفاجئاً للأوروبيين قبل غيرهم، حيث الدبلوماسية الأوروبية تواجه مأزق التباين الواضح في مقارباتها حيال ائتلاف الدوحة، الذي وجد فيه البرلمان الأوروبي من يحمل أفكاراً لا تتلاقى مع المبادئ الأوروبية.
اللافت أن الإليزيه بقاطنيه من اليسار الفرنسي كما كان في عهدة سلفه اليمين، عندما يذهب بعيداً في محاكاة طيف الرؤية الأميركية، ينزلق بالدبلوماسية الفرنسية في سياقات تبدو متعارضة إلى حدّ التناقض مع الإرث الفرنسي المعروف، وتقامر بالإجماع الأوروبي، حتى إن الكثير من الساسة الأوروبيين نأوا بأنفسهم خارج ذلك السياق.
فالمشهد لم يقتصر على تعدد المواقف الفرنسية، ولا على تناقض الرؤية بين خارجيتها ورئيسها، وبين قصر الإليزيه، بما يعكسه من ارتجال يعبّر عن قصور وبدائية وعدم نضج لم تعرفه الدبلوماسية الفرنسية في تاريخها، بل نراه في بعض الأحيان متداخلاً في لعبة توزيع الأدوار، حيث إن ما يتردد فيه هولاند يعوّضه فابيوس، وما يعجز عنه الأخير يتكفل به الأول.
ما يخشاه الفرنسيون اليوم لم يعد فقط الهواجس التي يثيرها أداء سياسي أضاع سمات الدبلوماسية الفرنسية ومعالم الاعتزاز بالعهد الديغولي، ولا افتقاد التمايز الذي كانوا يفاخرون به، وإنما من الارتدادات السياسية في ظل تبعية للسياسة الأميركية لم يعتدها الفرنسيون ، ويشعرون معها بحرج ينتقص من الشخصية الفرنسية، وقد تجاوزت في بعض وجوهها تبعية الدول الميكرونية وسادية المشيخات الخليجية التي تنتظر الثناء من إسرائيل والرضا من السيد الأميركي.
والمفجع بالنسبة لهم أن تتحوّل فرنسا، الدولة العظمى والعضو الدائم في مجلس الأمن، إلى مجرد رقم يتحرك بالإيماء الأميركي ويخضع لمزاج حساباته قبولاً أو رفضاً، وأحياناً بالزجر حين يكثر من أخطائه في قراءة الإيحاء أو يبالغ في ردة الفعل وربما في الفعل ذاته.
ما هو واضح أن السياسة الفرنسية المحملة بأطماعها البائدة تقدم على سوابق غير معهودة، وتحاكي في أغلب الأحيان سيناريوهات لا تقتصر خطورتها على التجاوزات القانونية، وإنما تمتد في النسق السياسي الذي تسابق فيه السياسة الفرنسية مشيخات الخليج في الغوص بالمستنقع الآسن، وتنزلق إلى الدرك الذي تتخبط فيه تركيا في دعم الإرهابيين والمسلحين.
الأوضح أن الرئيس الفرنسي ودبلوماسيته يواجهان مأزقاً أخلاقياً قبل السياسي والقانوني، وإذا كان توجههما مدفوعاً بأطماع رسمتها أحلامهما الاستعمارية الجديدة، فإن الخطأ يبدو مركباً في كل المعايير والمقاييس، حين يتعمّد زجّ فرنسا بحسابات ومعادلات مغلوطة ناتجة عن غياب الأفق السياسي ومحدودية الخيارات، والارتهان لمصالح الآخرين وأطماعهم.
قد يكون بمقدور هولاند أن يلهث خلف الإيحاءات الأميركية طمعاً بالتصفيق الإسرائيلي، وبتقليد الخليجي، وربما التركي، لكنه لن يستطيع أن يعوّض ما خسره الفرنسيون من صورتهم أمام العالم، ولا أن يعيد للدبلوماسية الفرنسية ما افتقدته من توازن وموضوعية، ولا أن يصلح ما أفسدته تجاوزاته وممارساته، فحين تفقد فرنسا موقعها وصورتها لا نعتقد أن هناك ما يعوضها، وحين يضيّع الفرنسيون إرثهم السياسي الذي يعتزون ويفاخرون به، من الصعب على أي أحلام استعمارية أو أطماع آنية ان تستعيده، ولو بعد حين.
a.ka667@yahoo.com