ثورة أون لاين – بقلم رئيس التحرير علـي قـاسـم:
يعود الخطاب الأميركي أدراجه، ويتحرك وفق منحى تصاعدي لا يخلو من الغرابة في طرحه ولا من التناقض في مساره، ويكاد يكون الأمر شاملاً وعاماً على مختلف مستويات ذلك الخطاب ومصادره مع حوامله السياسية وغير السياسية،
في وقت كانت فيه الترجيحات تميل باتجاه الأخذ بالمسألة نحو حقبة من التهدئة مع روسيا على الأقل، والأخذ بسياق رفع وتيرة التنسيق بعد لقاء بوتين-ترامب.
ما جرى يبدو عكسياً، وإن الهجوم الذي شنه دعاة التصعيد لدى الدوائر الأميركية أعطى أُكله أسرع مما كان يتوقعه الكثيرون، حيث العقوبات ضد روسيا تأخذ طريقها نحو التنفيذ، ووزير الخارجية الأميركي الذي كان يفترض أن يكون المنفذ لتلك الحقبة من التفاهم مع روسيا يعود إلى استخدام لغة البنتاغون، بل تميل بعض مفرداته المتخمة بالاشتراطات والشروط غير القابلة حتى للنقاش، لأن تكون استنساخاً للاستخبارات أكثر مما تعبر عن لغة الدبلوماسية.
في الأبعاد.. تأخذ القضية مسارات متعددة، وتكاد تكون في تواز مع الهبّات الساخنة التي تنتاب القرار الأميركي، الذي يصحو على غير ما يبيت عليه، وتتناوب معها حمّى التصعيد شمالاً وجنوباً بدءاً من البنتاغون وما يحمله، وصولاً إلى البيت الأبيض وما يضمره، مروراً بالخارجية التي تحاول الإمساك بالعصا من المنتصف والبحث عن نقاط اتفاق أو التقاء بين الجانبين، رغم يقين الخارجية الأميركية بأن الفارق في المقاربة لا يعدو كونه خلافاً في التوصيف أكثر مما هو انعكاس لتباين في الأهداف، بحكم أن ما يحكم القرار النهائي الأميركي يبقى هو ذاته في الاتفاق والاختلاف.
ومن الواضح أن الأبعاد التي تحكم العودة الأميركية إلى طرح شروط جديدة على روسيا واستخدام لهجة التهديد والوعيد- وإن كانت أقرب إلى الاشتراط المسبق- لا تتعلق بالرغبة الأميركية، بقدر ما تحاكي الهواجس الإسرائيلية، وربما كانت سابقة في كثير من الأحيان لما سبق لإسرائيل أن طرحته علناً من شروط، وهو ما يجزم بأن اللغة الأميركية المستجدة تجاه الأحداث في سورية والموقف من روسيا، محاولة ابتزاز رخيصة تدرك إدارة ترامب- كما إسرائيل متيقنة- من أنها شروط غير قابلة للتنفيذ، وهي في سياق وضع العصي في عجلات ما سمي اصطلاحاً: توافقاً أو تفاهماً روسياً أميركياً على تخفيف التصعيد في الجنوب، والذي يلقى معارضة في الداخل الأميركي وصلت حد وصفه بالإذعان الأميركي لروسيا أو تسليم المنطقة لها، وهو ما قد يكون أنموذجاً لسائر الاتفاقات التي قد تحصل لاحقاً، وربما يمهد الطريق لمقاربة دولية كان بمقدورها أن تحدث اختراقاً في الحائط المسدود لو أن النيات كانت سليمة وتوافرت الإرادة الجادّة للتنفيذ والالتزام.
ما يبدو جلياً أن أميركا ليست بوارد التفكير بحسن تلك النيات، ولا هي في عجلة من أمرها للذهاب بعيداً مع روسيا في أي اتفاق، والعقوبات التي فرضتها تكشف المستور وتظهر ما كان مضمراً في هوامش المرونة الأميركية المفاجئة، وحتى الخطوات التي ظهرت بعد الاتفاق كانت غير متوقعة، لكنها على الأقل تعكس استعجالاً أميركياً بددته التصريحات الأخيرة لوزير الخارجية الأميركي، حين عاد إلى الحديث بلغة لا تتطابق مع واقع الحال من جهة، ولا تعكس الرغبة في تهدئة الأجواء المتوترة مع روسيا والتي تترجم إلى حد بعيد الانكسار غير المنظور في الحسابات الأميركية والمعادلات التي أنشأتها من جهة ثانية.
الأهم يبدو أن التصعيد الأميركي يقتبس ما يريد من المشهد، ويجتزئ ما يتوافق مع تمنياته، حيث ما كان يحتاج فيه إلى حفظ ماء وجهه سارع إلى تنفيذه من بنود الاتفاق مع الروسي، فيما بدا أكثر تشدداً تجاه ماتبقى، وأهدر كل النقاط الأخرى التي تشكل تمهيداً لازماً وصريحاً لمقاربة أميركية تعيد التموضع السياسي والاستراتيجي على أساس محاكاته لما تضمره أميركا، وما تطلبه إسرائيل.
الفارق هنا أن أميركا التي يعلو صوتها في الحديث حول شروط واشتراطات هي ذاتها التي يخفت صوتها في التعليق على ما يصدر من أدواتها ومرتزقتها من هواجس ومخاوف تعززها وتؤكدها سياق التطورات، التي تشير بوضوح إلى أن ما تشترطه أميركا أقرب إلى مناكفة سياسية تدور في فراغ الدور الأميركي المنهك، أو على تخوم الإحساس المتصاعد في الداخل الأميركي بالخيبة من أداء سياسي ودبلوماسي وحتى عسكري أقرب إلى مناورة تحمل بذور سقوطها السريع، ولا تحتمل مجرد التعديل في مقارباتها..!!
a.ka667@yahoo.com