ثورة أون لاين – بقلم رئيس التحرير – علي قاسم:
رغم الغموض الذي يلفُّ تفاصيل التفاهمات الأميركية التركية حول منبج وسواها، ثمة خطوط عريضة تحاول رسم المتاهة السياسية التي أظهرتها التطورات المتلاحقة، وسط استعصاء في الخيارات التي تحكم سياق ما أنتجته تجاذبات العلاقة المفترضة بين محتلين ومعتديين اقتضت مصالحهما الآنية التقاطع عند نقاط كثيرة،
لكنها لم تستطع أن تخفي المساحة الكبيرة من الاختلاف والخلاف في المقاربات التي تدفع بكليهما إلى إبداء الشكوك المتبادلة على مستوى النتائج.
التجربة المشتركة للأميركيين والنظام التركي وما نتج عنها على مدى سنوات العدوان المباشر وغير المباشر، والانخراط العملي في دعم الإرهاب كل من زاوية مصالحه الخاصة، ووفق اعتبارات تتفاوت فيها درجة التعويل عليه، فإن هذه التجربة لم تكن مشجعة في كثير من المفازات التي واجهتها، ولم تنتج في أي وقت ما يمكن اعتباره نقاطاً مشتركة، أو تفاهمات الحد الأدنى، خصوصاً في ظل تفاوت المقاربات الناتجة عن هذه العلاقة، والفراق القائم لجهة الدور الوظيفي لتركيا في التزعم أو التفرد بقيادة المشروع الإرهابي إقليمياً، ولاسيما بعد التنازع مع السعودية على هذا الدور والصراع الخفي والمعلن بين الدورين القطري والسعودي.
الحديث الأميركي عن صعوبات تحول دون تنفيذ الاتفاق ليست أكثر من رأس جبل الجليد، الذي يتربع على قاعدة من المشاكل والعقبات التي تجعل أي اتفاق مجرد محاولة للترويج السياسي أو للاستهلاك الإعلامي أكثر مما هو للتنفيذ أو التطبيق، ويضاف إليه حجم المغالطات التي بنت الاتفاق ذاته على جملة من الأوهام حاولت من خلالها تعويض الفشل الذي لاحق الأميركي كما النظام التركي في مشروعهما الإرهابي بشكله المطروح، فكان الاتفاق في جوهره محاولة للهروب إلى الأمام من المأزق السياسي الذي يواجههما، حيث حضرت الشياطين في العناوين قبل أن تستوطن التفاصيل.
المشهد لا يزال ضبابياً وشديد التعقيد في الحسابات الإقليمية والدولية على حد سواء، وخصوصاً مع تداخل العوامل الداخلية والخارجية، لتصبح معه أميركا كما النظام التركي أساس المشكلة، وسببها وكل ما يحيط بها، نظراً للدور المشبوه الذي يرسمه كلاهما، وتختلط فيه الأوهام والتمنيات مع قدر كبير من الحسابات والمعادلات المغلوطة، حيث الفرق هنا لا يأخذ بما تفرضه مجريات التاريخ قريبه وبعيده، وإنما تحاول أن تبني على ذلك الخليط المعقد لتمرير أجندات تبدو حمّالة أوجه، تضيف إلى الأعباء السياسية والعسكرية القائمة تراكمات الأخطاء المزمنة في المقاربة الأميركية، ومثيلتها التركية.
والأسوأ ما يتم تداوله من تفاصيل ملحقة تستبق الاتفاق، في محاولة محمومة لتهيئة الأجواء في المنطقة للترويج لعودة العلاقات بينهما إلى سابق عهدها، أو أنها في الطريق إلى ذلك، والإيحاء بأن تركيا بصدد مراجعة كلية لاصطفافاتها السابقة، بما فيها التفاهمات مع روسيا التي ستصبح مجردة من أي قيمة فعلية ما دام الأميركي ينتظر هذه اللحظة لكي يعيد ترتيب أوراق المواجهة في السياسة على الأقل، مع استمرار المشاغبة الميدانية من خلال إعادة بيع الأوهام لما تبقى من مرتزقته وأدواته الإرهابية، والتنغيم على وتر التفاهمات مع التركي كأرضية يمكن الاتكاء عليها لبدء مرحلة جديدة من المواجهة المفتوحة في المنطقة.
الواضح أن الأميركي لا يهمه إن نجحت التفاهمات على الأرض بينه وبين التركي أم فشلت، ولن ينتظر مصيرها المحتوم والمحسوم سلفاً، بل يعمل على توظيف الحديث عنها لينطلق في تدابير وخطوات تستثمر في هذا الاتفاق، وهو ما يبدو أكثر وضوحاً من سياق الحديث الأميركي عن الاتفاق والنقاط الصعبة التي تشير إلى النيات المسبقة التي تعمل عليها واشنطن، بغض النظر عن المصير الذي ينتظره، وهو ما تؤشر إليه المقاربة الأميركية حتى اللحظة.
فالأميركي كما التركي محتلان ومعتديان، وليس من حقهما إجراء أي تفاهمات أو اتفاقات مخالفة للقانون الدولي، وخصوصاً أنهما يتفقان على تقاسم نفوذ ومصالح غير شرعية على الأرض السورية.. التي سيخرجان منها عاجلاً أم آجلاً، وبالتأكيد سيكون عاجلاً، لأن المعطيات ومجريات الأحداث لن تترك لهما المساحة ولا الوقت لتنفيذ مخططاتهما، سواء ما اتفقا عليه.. أم ما يختلفان حوله، بدليل أن كل تلك المحاولات ليست أكثر من خطوات لترتيب الخلاف وليس لتحديد نقاط الاتفاق، وهذا يضيف إلى المتاعب التي تواجههما المزيد من النقاط المحسومة، ويؤسس في نهاية المطاف لوضع حد لهذا الاحتلال والعدوان.