الكتابةُ هي الفِعلُ الإنسانيُّ الأرقى في حياةِ الكائِنِ البشري؛ ولقدْ قُدِّرَ لهذا الكائِنِ أن يحفظَ ما كَتَبَهُ منذُ بدءِ اكتشافِهِ لهذا الفِعلِ المُذْهِلِ في كُتبٍ تطوّرت من ألواحِ الطّينِ والرُّقُمِ والمِسلّاتِ والأحجارِ، كحجرِ الرّشيدِ مثلاً مروراً بالكُتبِ التي وجدناها على لفافاتِ أوراقِ البُردى وجلدِ الغزالِ وما إلى ذلك، وصولاً إلى الكتابِ الورقيِّ، فالكتابِ الإلكتروني.. والناطق، وما لا نعرفُ من أشكالٍ قد نَصلُ إليها إذا لم تُفنِ البشريّةُ نفسها ذاتِ يوم، والإنسانُ خَلَقَ عَبْرَ الكتابةِ ذاكرةً للنوع البشريِّ لا تموت.. والذاكرةُ كما يَرى الرّوائيّ والفيلسوف الإيطاليّ إمبرتو إيكو (1932 – 2016) هي روح الإنسان، فالنّاسُ عندما تقول: (أنا؛ فإنما تعني ذاكرتنا).. المكتباتُ هي الذاكرة المشتركة للجنس البشريّ؛ ورُبّما لهذا كُلِّه وَصَفَ دانتي الله في الفردوس بأنّه (مُجلّد واحد) حيث يكمُنُ كلُّ شيء مُبعثرٍ في الكون.. اللهُ ووفق وصف دانتي – مكتبةُ كُلِّ المكتبات.
ولهذا فليسَ غريباً أن يجتهدَ العالمُ اليوم في إحداثِ الجوائز المخصّصةِ للكتابةِ وفي منحها أيّاً كانت الأسباب الكامنة خلف ذلك… حتى أنّ ساعةً واحدةً لا تمرُّ في عالمنا اليوم إلاّ وتشْهَدُ منحَ شخصٍ ما جائزة أدبيّة، ففي بلدٍ مثلِ فرنسا – على سبيل المثال لا الحصر – يزيدُ عددُ الجوائز الأدبيّة عن ألفٍ وخمسمئة (1500) جائزة، أي أنّه في اليوم الواحد تُمنَحُ خمسُ جوائزَ (5) أدبيّةٍ… وربّما من الغريب أن الجوائز الأكثر شُهْرَةً كالجونكور الفرنسيّة مثلاً لا تَمْنَحُ فائِزها أيَّ قيمةٍ مالية، بل فقط عشرة (10) يورو، وكأسَ نبيذٍ أبيضَ يوميّاً لمدّة عام!، بينما تصلُ جائزةُ الأكاديميّة الفرنسيّة الرسميّة إلى نصف مليون يورو… وفي العالم من الجوائز ما يتجاوز هذهِ القيمة بكثير…ولقد عَرَفَ المشهد الثقافي السوري عدداً غيرَ قليلٍ من الجوائز الأدبيّة المهمّة قبلَ أن تندِلعَ حَربٌ جهنميّةٌ مجنونةٌ أُريد لها أن تحرقَ الأخَضَر واليابسَ…
حتى إذا استجمعتِ البلادُ أنفاسها عادتْ فأطلقت على لسانِ رئيسها جائزتي الدولة التشجيعيّةِ والتقديريّة؛ وأُسنِدَ تنفيذهما إلى وزارة الثقافة بمرسومٍ كريم عام 2012، وهاتان الجائزتان تُمنحانِ على مجُملِ نتاجِ المُبدعِ في الأدب والفن.
ثُمّ قامت وزارةُ الثقافةِ من خلالِ هيئتها العامة السوريّة للكتاب بإعادةِ إطلاقِ جائزتي حَنّا مينا للرواية العربيّة وسامي الدروبي للترجمة عام 2017 بعد أن توقّفتا ما لا يقلُ عن تسع سنوات، لتُحدثَ بعد ذلك جائزتي القصّة القصيرة، واللوحة التشكيليّة الموجهتين للطفل، ولتعزّزَ حضورَ جائزة عمر أبي ريشة للقصيدة العربية، ونزار قباني للمجموعة الشعرية.
إنّ هذهِ الجوائزَ وغيرَها مما تقدمُهُ وزارة الثقافة السوريّة، وفي أشدِ الأوقاتِ صعوبةً إنما تُمثّلُ مؤشِراً دالاً على حَرَاكٍ ثقافيٍّ يُسِهُمُ أيّما إسهامٍ في خلقِ بيئةٍ ثقافيّةٍ إبداعيّةٍ مُعافاة، فمن شأنِ الجوائز الأدبيّةِ الوطنيّة التي ذكرتُها أن تقدِّمَ أصواتاً جديدةً للساحةِ الأدبيّة، أن تبعثَ الروحَ في كتابٍ أو نصٍ كانَ من شأنِهِ أنّ يظلَّ حبيسَ الأدراج المظلمة والرفوفِ المغطّاةِ بالغبار، أن تطلقَ صوتاً فريداً كان ضائعاً في ازدحامِ الأصواتِ المتشابهة، وأن تُساعِدَ أيضاً وفي المطاف الأخير المبدعَ ماليّاً ولو لبضعةِ أشهرٍ في حياته.
ومنذ فترة قصيرة أعلنت وزارة الثقافة في حفلٍ مهيبٍ نتائجَ جوائزها، وكان اللافتُ فوز عدد غير قليل من المبدعين الشباب، بعضهم لم يصدر إلّا عملاً أدبياً واحداً من قبل، وقد حكَّمَ المسابقات نخبة من الأساتذةِ الأدباء الكبار وكان رائِدهم في العمل الانحيازُ إلى فنيّاتِ الكتابة، والنزوعُ إلى الجمال الأدبي؛ دون أيّ تصوّراتٍ منغلقة، أو التزاماتٍ من خارجِ الحقل الفني وبالمقابل دون التقليل من شأنِ البعد الفكري والمعنوي الحاضرِ في العمل.
إنّ مسألة التقييم الأدبي التي تتمُّ في الجوائز هي ذاتها على درجةٍ كبيرةٍ من التعقيدِ والصعوبة وتحتاجُ إلى تحلِّي المحكّمين بميزتين: الذائقةُ الفنيّةُ العاليةُ، والمعرفةُ العلميّة الرصينة بدقائق هذا الجنس الأدبي أو ذاك…
د. ثائر زين الدين
التاريخ: الأحد 2-12-2018
الرقم: 16850