من بلاد بعيدة يلفها الصقيع جاءني صوتها دافئاً يحمل كل عبق دمشق، والذكريات.. من عمق أوروبا، ومع أولى أنفاس عام جديد، ومن حيث وصلت بها الأقدار أسمع صوت (سلوى).. صديقة باعدت بيننا السنوات، والمسافات.. ولكن.. ها نحن نلتقي من جديد، وليس مهماً كيف نلتقي.. إنما ما يهم هو أزهار الصداقة التي عادت لتنتعش من جديد أيضاً.
تسألني عن حالي، وأسألها.. وأخبرها، وتخبرني عن ذلك السفر المرهق، والمربك، والذي ركبت من أجله الأهوال صوناً، وخوفاً على الأعمار. ما فكرت يوماً أن تغادر مساحة الوطن في سفر طويل، وبعيد لكن هذا الذي حصل.. إلا أنها لا تعترف بأنها غادرت وطنها الذي يهفو اليه قلبها في كل وقت وحين، لتؤكد أنها إنما ابتعدت عنه فقط.. ولا تملك في قادم الأيام إلا أن تعود اليه.
ولعل حال (سلوى) هو حال غيرها، وليس في هذا ما يثير الدهشة، أو الاستغراب.. لكنها استوقفتني عندما باحت لي بسرها الصغير الذي حملته معها الى بلاد الاغتراب، بل بكنزها الذي لم تفرط به حتى في أصعب الظروف، وأقساها.. تخبرني عنه بفرح، وبنبرة انتصار.. تقول إنها مغرمة بالقراءة، وعندما ارتحلت لم تجد ما هو أثمن من الكتاب لتصحبه معها، ومعه أيضاً مشغولة يدوية فيها خصوصية مدينتها، ونبض تراثها المخبوء بين خيوط نسيجها، وحرارة ألوانها.
وأعود لأسألها ولماذا الكتاب تحديداً بدل ما غلى ثمنه وخف حمله في سفر هو في حقيقته الى المجهول، وليس الى المأمون، والمأمول؟.. وترن ضحكتها متدفقة بالأمل كما ينبوع يحمل ماؤه الحياة.. وتجيب بثقة أن الكتاب إنما يحمل هويتها الناصعة، وتاريخ الوطن الذي أتت منه، وتعتز بانتمائها اليه.. وأما المشغولة اليدوية الصغيرة فقد تكثفت فيها قطرات التراث التي تحمل المعنى، وهي الرمز لمهد الأصالة، والحضارة.. وهل أثمن من تاريخ مجيد لتلك البقعة من الأرض على خارطة العالم؟ وهل هناك ما هو أثمن مما أتقنت صنعه يد إنسان نبت في أرض الحروف الأولى للأبجدية؟ وما قيمة المرء دون هوية، وتراث، وانتماء؟
لكن لهذا الانتماء، ولهذا الكبرياء ضريبة لابد من دفعها، وتسديدها في حينها، وتعود لتجيبني بأن ضريبتهما هي الإعلان عن حضورها في الأرض الغريبة، وأنها ليست مجرد رقم يضاف الى أرقام.. فلولا أنها تميزت لما عرفوا هويتها.. ولولا أنها تعلمت لغة أهل تلك البلاد، وأتقنتها في وقت قصير نسبياً لما أصغوا إليها.. ولولا أنها قامت بمشاريع، ولو صغيرة، للتفاعل مع المجتمع، وللإنتاج لما نظروا اليها نظرة الإعجاب، والتقدير.. ولولا أنها حملت وطنها في قلبها لما عرفوا عنه ما يجب أن يعرفوه.
إلا أن السؤال ظل يشغلني كيف لها أن تصرّ على حمل كتاب وهي تركب أمواج المجهول، وتبحر نحو شطآن المجهول.. شطآن لا تعرفها.. ولا تعرف إن كانت ستنجو في الوصول اليها؟.. كتابها، أو كنزها الثمين تغلفه بعناية حتى لا يغرق إذا ما غرق حلمها.. لكنها تباغتني بجوابها بأنها لو لم تقرأ مئات الكتب لما كانت لذلك الكتاب قيمته عندها.. وهو ليس قرآناً، ولا كتاباً مقدساً.. بل مجرد كتاب مثل ألوف بل ملايين الكتب التي تتناثر في كل مكان من العالم.. لكنه الرمز الذي أنقذ ذاتها من الضياع وهي تتماهي مع ظلال الكلمات. أما عن كنزها الصغير الآخر تقول لو أن مغزل التراث لم يدم أصابعها مرات ومرات لما خبأت تلك المشغولة الصغيرة في مكان قرب القلب لتنجو معها إذا ما نجت.. وها هي تعود لتغزل من جديد على منوالها سرباً من مشغولات ثمينة.. تغزلها ربما الآن بالدمع، لكنها تأمل أن تعود بها الى حيث أرض الوطن الذي نبتت منه وهي مغزولة بالفرح والبهجة، وتنسى معها صقيعاً بقي على الأرض، وفي نفوس مَنْ ليسوا من الأقارب، أو الجيران، أو من أهل الانتماء.. ولم يتسلل الى القلب.
لينا كيلاني
التاريخ: الجمعة 11-1-2019
الرقم: 16882