لم يقتصر الأمر على البنتاغون في ممارسة الضغوط على الرئيس الأميركي دونالد ترامب للإبقاء على القوات الأميركية في سورية، ذلك لأن الواقع يؤكد بأن إسرائيل ومؤيديها في الولايات المتحدة ما انفكوا يبذلون قصارى جهودهم لإقناع إدارة ترامب بتوظيف الوجود العسكري الأميركي في المنطقة لدعم الحملة الإسرائيلية في مساعيها الرامية إلى إشعال حرب مع إيران.
تهدف الاستراتيجية الإسرائيلية إلى بث بذور الانشقاق بين الروس والإيرانيين بغية الانفراد بطهران وممارسة الضغوط عليها للانسحاب من سورية. وقد تمكنت أحد مراكز الفكر الموالية لإسرائيل في الحصول على موافقة ترامب لتطبيق تلك السياسة عبر حملة قامت بها في الخريف الماضي، لكنها لم تحقق أهدافها نتيجة عدم تلقيها الدعم المطلوب من قبل بعض مسؤولي البنتاغون. وتبين بأن محاولة اللوبي الإسرائيلي للسيطرة على السياسة الأميركية قد كشفت مدى قدرة إسرائيل في التعامل مع إدارة ترامب حتى قبل تدخل الرئيس شخصيا.
استراتيجية الاستفزاز الإسرائيلي في سورية
في مطلع عام 2018، عمدت إسرائيل إلى تصعيد هجماتها الجوية ضد أهداف زعمت أنها إيرانية في سورية وأخذت تروج بأن الهدف من تلك الهجمات يكمن في منع إيران من نقل صواريخ عالية الدقة ومتقدمة من سورية إلى حزب الله في لبنان (على الرغم من معرفة الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية بعدم صحة ما يُروج له). إلا أنه خلال عام 2018 نهجت القوات العسكرية الإسرائيلية إلى إضافة ذريعة أخرى لتبرير هجماتها وهي: «إرغام إيران على الانسحاب من سورية». علما بأن إسرائيل لا تمتلك أي دليل على وجود قواعد إيرانية في سورية.
ولتحقيق أهدافها، أخذت إسرائيل بتبني استراتيجية تقوم على سيادة اعتقاد بأن حربا ستنشب بين طهران وتل أبيب في سورية إن لم تتدخل روسيا وتمارس ضغوطها على الإيرانيين. وفي 18 نيسان الفائت عمد درور ميشمان العضو البارز في طاقم نتنياهو لإعطاء موجز حول تلك الاستراتيجية علنا للمرة الأولى. وأوضح ميشمان بأن إسرائيل تعمل على تصعيد هجماتها في سورية بهدف استفزاز إيران لعلها تقوم برد فعل عسكري انتقامي.
أقر ميشمان بأن قدرة إسرائيل على تنفيذ تلك الضربات في سورية قد تتلاشى إزاء قرار روسيا بتزويد دمشق بنظام دفاع جوي متقدم (والذي جرى تسليمه في شهر تشرين الثاني الفائت). وقد جاءت تصريحاته تلك بمثابة تحريض لواشنطن كي تكرس جهودها في التحرك لصالح إسرائيل.
أما مركز الفكر الذي تعتمد إسرائيل عليه للتأثير على السياسة الأميركية المسمى معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى (المنشأ من قبل قيادة الإيباك عام 1985) فلم يعدم وسيلة إلا وسلكها في سبيل التعاطي مع تلك المعضلة. وفي 13 نيسان، ورد إلى معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى(WINEP) مقترح تقدم به السفير جيمس جيفري يقوم على الترحيب بفكرة انسحاب القوات الأميركية التي عرضها ترامب لكن دون أن يكون ذلك الانسحاب كاملا حيث اقترح جيفري باكتفاء الولايات المتحدة بتقليص عدد قواتها البرية في سورية على مدى فترة زمنية تمتد من 9 إلى 12 شهر، ومن ثم يصار إلى الاعتماد بشكل رئيس على القوة الجوية التي تجوب سماء سورية لتنفيذ مهمات أطلق عليها اسم «استعراض القوة» بغية «الوقوف على ما يمكن أن تتخذه روسيا وإيران من إجراءات»
في شهر تموز، جرى إعطاء تفصيل لمقترح جيفري المبدئي وذلك في وثيقة معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى التي تتعلق «بالسياسة الأميركية الجديدة حيال سورية» وشارك في الإعداد لها كامل القيادة العليا في المعهد. وتدعو تلك الوثيقة الولايات المتحدة إلى «دعم الجهود الإسرائيلية لفصم عرى العلاقة بين إيران وروسيا ودمشق ودعم الضربات الإسرائيلية داخل سورية» وذكرت الورقة بأن السياسة الإسرائيلية تنصب على «دفع روسيا للتعاطي مع تلك معضلة إما بالعمل على السيطرة على السلوك الايراني أو مواجهة حرب محتملة بين إسرائيل وإيران وحزب الله على الأرض السورية».
وأوضح معدو الوثيقة دور الولايات المتحدة في تلك السياسية باعتبار أنها تمتلك القدرة على فرض «قيود على التحركات الإيرانية» في سورية من خلال «الحفاظ على أعداد صغيرة من القوات الأميركية وتشكيل منطقة حظر طيران في المنطقة الشمالية تسيطر عليها الولايات المتحدة وتركيا»
صياغة سياسة لدعم الاستراتيجية الإسرائيلية
في شهر آب، عمد وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو الذي يشارك جيفري بالخطوط الأساسية للوثيقة آنفة الذكر إلى إنشاء مجموعة صغيرة من المسؤولين الذين سبق لهم أن أيدوا الاستراتيجية الإسرائيلية العدوانية في سورية ويشاطرونه آراءه. وجرى تسمية جيفري (العضو في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى) كممثل أميركا الخاص في سورية. وقد ذكرت صحيفة واشنطن بوست بأن بومبيو أوكل لجيفري مهمة إعداد «خطة محكمة» لسياسة الولايات المتحدة في سورية. وننوه في هذا السياق إلى أنه سبق لجيفري أن أعلن في مقابلة أجريت معه شهر أيلول الفائت مع صحيفة بوست قائلا: «تتركز السياسة الجديدة على عدم انسحابنا في نهاية العام» واستطرد القول بأن «بقاء القوات سيكون مرهونا بإخراج إيران من سورية وإلحاق الهزيمة بتنظيم داعش»
في منتصف شهر تشرين الأول، ذكرت قناة إن بي سي نيوز بأن تلك السياسة الجديدة «جرى صياغتها ومناقشتها ومن المتوقع نشرها في الأسابيع المقبلة». لكنها لم تحظ بموافقة رسمية من ترامب. وذكرت مراسلة إن بي سي كارول لي على الهواء مباشرة بأن أولئك الذين وجهوا النقد لمسودة تلك السياسة قد انتابهم القلق والخشية من أن تكون «الخطوة الأولى تقوم على استفزاز إيران للانخراط بعمليات عسكرية».
وقد قالت لي بأن أولئك الذي أعدوا هذه السياسة نفوا عن انفسهم تلك النية، لكن الواقع يؤكد بأنها الهدف الأساس الذي حدده جيفري ومعهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى في الوثيقة التي تم إعدادها في شهر تموز إذ ينظر إليها باعتبارها تمثل الاستراتيجية الأوسع لإسرائيل التي تتناغم مع السياسة الأميركية.
كان الفريق المؤيد لإسرائيل في الإدارة الأميركية ينتظر حصول الموافقة على السياسة الجديدة، حيث كانت القوات العسكرية الإسرائيلية أكثر استفزازا في سورية وبدا ذلك جليا في 18 أيلول، عندما نفذت مقاتلات إسرائيلية ضربات صاروخية على أهداف بالقرب من القاعدة العسكرية الروسية في محافظة اللاذقية الأمر الذي استدعى من الصواريخ السورية المضادة مجابهة الطائرات الإسرائيلية حيث كانت طائرة عسكرية روسية على متنها 15 شخصا تحلق بذات المنطقة.
وجاء الرد الروسي في 24 أيلول ببيع الحكومة السورية منظومة الدفاع الصاروخية المضادة للطائرات إس 300 الأمر الذي شكل تحديا خطيرا للاستراتيجية الإسرائيلية. وعلى خلفية ذلك عمد مستشار الأمن القومي الأميركي جون بولتون الذي يعتبر الحليف الأقدم لإسرائيل في إدارة ترامب إلى الرد قائلا: «لن ننسحب طالما القوات الإيرانية خارج حدود بلادها».
كرر جيفري بوقاحة بالغة موقف بولتون قائلا: «القوات الأميركية ستبقى في سورية حتى نحقق هزيمة داعش وانسحاب جميع القوات التي تقودها إيران من سورية برمتها، وإتمام العملية السياسية على أكمل وجه».
على الرغم مما ذكر نجد أن ترامب قد أبلغ كلا من ماتيس وبومبيو وبولتون بقراره الذي ينص على الانسحاب من سورية يوم الاثنين الموافق 17 كانون أول، وقد حاول المسؤولون الثلاث التوصل إلى إقناع ترامب بالعدول عن رأيه في يوم الاثنين والثلاثاء قبل حلول مساء الثلاثاء. وشاركهم في ذلك نتيناهو الذي تحدث بهذا الأمر مع ترامب، وكذلك بومبيو الذي تحدث مرتين معه قبل الإعلان عن نيته الانسحاب.
لقد أصبح ترامب على ثقة تامة بأن المضي في خطة الانسحاب سيفضي إلى إغضاب النخبة في الأمن القومي إضافة إلى إسرائيل ومؤيديها. لكنه لم يكترث وتمسك برأيه الأمر الذي ينبئ عن تحول هام قد طرأ على الأولويات السياسية للرئيس الأميركي.
بقلم غريث بورتر
The American Conservative
ترجمة: ليندا سكوتي
التاريخ: الثلاثاء 15-1-2019
الرقم: 16885