«هي كلمات حقٍّ.. وصيحةٌ في واد.. إن ذهبت اليومَ مع الرِّيح.. قد تذهبُ غداً بالأوتاد..» بهذه الكلمات الجوهرية والمضامين السَّامية الصَّميمة، قدَّم لكتابه «طبائع الاستبداد.. ومصارع الاستعباد»، أحدُ أهم قامات الفكر ومنارات العلم والتنوير ورجلٌ من أهمِّ رجالات النهضة: العربيُّ السُّوريُّ الحلبيُّ الأبيُّ عبد الرَّحمن الكواكبي.. كلماتٌ هي أوَّلُ ما يتوارد إلى الذِّهن لشيوعها وشهرتها وأهمِّيَّتها، فور ما يُذكَر عبد الرَّحمن الكواكبي.. ولربَّما أكثر ما شدَّني إلى ذكراه، ودعاني لِلَّوذ بجملته الشَّهيرة أعلاه، واستذكار سيرة حياة رجلٍ عظيم لعائلة مغرقة في الشرف والكرامة، عريقة في الأصل والرفعة والمحتد، ولهامة من هامات أنجبتها حلب الشَّهباء، لأتذكَّر بأسفٍ ماحلَّ بها وبالوطن، وما عشناه ونعيشه من تدهور الواقع الفكري والثقافي والتنويري في وقت كانت موجة عاتية للظلام والظلاميين، على حين غرَّة من المعرفيين العلمانيين المثقفين، ولنقول كم نحن بحاجة لأمثاله على فترة من الزَّمان، ما بقي الشرُّ والاستعباد والغزو والطغيان.. ولعلِّي عقدتُ العزمَ كل شهرٍ مرةً، على استذكار سيرة أهمِّ رموز ورواد الفكر والأدب والسياسة والمجتمع، في وطننا وغيره على مر الأزمان، ممن شكَّلوا علاماتٍ فارقةً مضيئةً، ونقاطاً بارزةً ساميةً في تاريخ شعوبهم وأوطانهم وأممهم، لا تبليها الأدهار ولاتغشاها الظُّلُمات.. في مدينة حلب التي كانت تزدهر بالعلوم والفقهاء والعلماء، درس الشَّريعة والأدبَ وعلومَ الطبيعة والرياضة في المدرسة الكواكبيَّة التي تتبعُ نهجَ الشَّريعة في علومها، وكان يُشْرِفُ عليها ويدرِّسُ فيها والدُهُ مع نفرٍ من كبارِ العلماء في حلب.
لم يكتفِ الكواكبي بالمعلومات المدرسية، فقد اتسعت آفاقه أيضاً بالاطلاع على كنوز المكتبة الكواكبية التي كانت تحتوي مخطوطاتٍ قديمةً وحديثة، ومطبوعاتٍ أوَّلَ عهدِ الطِّباعة في العالم، فاستطاعَ أن يَطَّلِعَ على علوم السِّياسة والمجتمع والتاريخ والفلسفة وغيرها من العلوم.
بدأ حياتَهُ بالكتابة في الصِّحافة، وعُيِّنَ مُحَرِّراً في جريدة الفرات التي كانت تصدُرُ في حلب،وعُرِفَ بمقالاته التي تفضحُ فسادَ الولاة العثمانيين آنذاك، وبعد أن تعطَّلت صحيفتاه «الشَّهباء» و«الاعتدال»، انكبَّ على دراسة الحُقُوق حتَّى برع فيها، وعُيِّن عضواً في لجنتي الماليَّة والمعارف العموميَّة في حلب، والأشغال العامَّة، ثم عضواً فخرياً في لجنة امتحان المحامين للمدينة. اتخذ مكتباً للمحاماة في حيٍّ من أحياء حلب قريباً من بيته، وكان يستقبلُ فيه الجميعَ من سائر الفئات ويساعدهم ويحصِّلُ حقوق المتظلِّمين عند المراجع العليا ويسعى إلى مساعدتهم، وقد كان يؤدِّي عملَهُ في معظم الأحيان دون أيِّ مقابل ماديٍّ، حتى اشتهر في جميع أنحاء حلب بلقب «أبي الضُّعفاء» تقلَّد مناصبَ عدَّة في حلب، فبعد أن عُيِّن عضواً فخرياً في لجنتي المعارف والمالية، عُيِّنَ مديراً رسمياً لمطبعةِ الولاية ورئيساً فخرياً للجنة الأشغال العامة، وتحققت في عهده الكثيرُ من المشاريعِ الهامَّة التي أفاد بها حلبَ والمناطق التابعة لها، كماعين رئيساً لبلديتها.
استمر الكواكبيُّ بالكتابة ضد السُّلطة آنذاك، والتي كانت تمثِّلُ في نظرهِ الاستبداد، وعندما لم يستطع تحمُّلَ ما وصل إليه الأمر من مضايقاتٍ من السُّلطة العثمانيَّة في حلب، سافر إلى آسيا: الهند والصين وسواحل شرق آسيا وسواحل أفريقيا وإلى مصر حيث لم تكن تحت السيطرة المباشرة للسلطان عبد الحميد، وذاع صيتُهُ في مصر، وتتلمذَ على يديه الكثيرون، وكان واحداً من أشهر العلماء،أمضى حياته مصلحاً وداعياً إلى النُّهوض والتقدُّم بالأمًّة العربيَّة، وشكَّل النَّوادي الإصلاحيَّة والجمعيَّات الخيريَّة التي تقوم بتوعية النَّاس، توفِّي في القاهرة متأثراً بسُمٍّ دُسَّ لهُ في فنجان القهوة1902, كما يذكُرُ أكثرُ من مصدر، ودُفِنَ عند جبل المقطَّم، رثاه كبارُ رجالِ الفكر والشِّعر والأدب في سورية ومصر، ونُقِشَ على قبره بيتان لحافظ إبراهيم:
هنا رجلُ الدُّنيا هنا مهبطُ التُّقى.. هنا خيرُ مظلومٍ.. هنا خيرُ كاتبِ
قفوا وأقرؤوا أُمَّ الكتاب وسلِّمُوا.. عليه فهذا القبرُ قبرُ الكواكبي
فأين نحن من سيرته ونضاله ودورِهِ الرِّياديِّ والتَّنويريِّ.. «هي كلماتُ حَقٍّ.. وصيحةٌ في واد.. إن ذهبَتْ اليومَ مع الرِّيح.. لقد تذهبُ غداً بالأوتاد..» أكرِّرُها وأعيدُ تحميلَها للأذهان لأُهيبَ بالجميع أفراداً وجماعاتٍ، ولاسيَّما في المؤسَّسات والهيئات والجمعيَّاتِ والمنظَّمات الثقافية والمَعرِفيَّة، على امتدادِ أوطاننا، لتلقُّفِ هذه الكلماتِ، صرخةَ حقٍّ عبَرَتْ جميع العصور.
ليندا إبراهيم
التاريخ: الجمعة 18-1-2019
الرقم: 16888