لاأدري إذا كانت المصادفة وحدها، هي التي جعلت ظروف حياة وملابسات رحيل الفنان الكبير لؤي كيالي، تتشابه، مع ظروف حياة وموت الفنان العالمي الشهير فان غوخ, رغم تباعد الأزمنة والأمكنة.. كل ما أعرفه أنني, ومن خلال متابعتي الطويلة لما يكتب وينشر عنهما،لا أزال أكتشف يوماً بعد آخر، المزيد من الإشارات المتداخلة بينهما، والتي تعمق من حالات التشابه والتداخل، ليس في ظروف حياتهما المضطربة فحسب، وإنما في ملابسات فاجعة رحيلهما بطريقة مأساوية.
فالمعروف عن لؤي كيالي أنه قدم في رحلة حياته القصيرة 1934-1978مجموعة معارض مشبعة بالحزن والألم، حيث جسد المعاناة الإنسانية في لوحات الطفولة والوجوه والأمومة، وهو يلتقي هنا مع فان غوخ الذي نلمس في لوحاته إشارات القلق والتوتر في ملامح الوجوه وتعابيرالعيون.
استفزاز الآخرين لهما
ولقد اتهم العديد من النقاد بعض المحيطين بفان غوخ انهم كانوا السبب في عودة نوبات الاضطراب إليه، لأنهم كانوا يستفزونه ولا يتعاطفون مع أفكاره، ولذلك أصبح حاد المزاج، يتشاجر مع من حوله لأتفه الأسباب، حتى أنه في إحدى الأمسيات تناول كأساً ممتلئة بالإبسنت وقذف بها على رأس غوغان، وتعقبه في الظلام و بيده موس, لأنه قال له: إن فتاة جميلة مثل كابي، لايمكن أن تعجب بواحد مثلك، وبسبب استفزازه أيضاً بتر أذنه, تعبيراً عن إعجابه المطلق بجمالها، الذي لم يستطع مقاومته.
تماماً كما كان العديد من الفنانين والكتاب والأدعياء يستفزون لؤي كيالي، وخاصة إثر افتتاح معرضه «في سبيل القضية»، في المركز الثقافي بأبو رمانة في 24 نيسان 1967 (أي قبل نكسة حزيران، وليس بعدها كما يشاع). الشيء الذي أدى إلى توتره واضطرابه، ومن ثم قيامه بتمزيق مجمل لوحات معرضه المذكور، مع العلم أن هجوم الأدعياء عليه لم يكن مبرراً، لاسيما وأنه قبل هذا المعرض وبعده ظل البؤس موضوعه المفضل، وإذا كانت لوحات البؤساء، قد وجدت طريقها إلى بيوت الأثرياء, فهذه نعمة وليست تهمة، لأن إقبال الأثرياء على اقتناء هذه الأعمال انعكس بشكل إيجابي على وضعه المادي, وبالتالي على إنتاجه ومعارضه (حيث أقام 12 معرضاً) كما لا نجد مبرراً لاتهامه بأنه ذو منبت بورجوازي, لأن التعاطف مع القضية والكادحين، لا يقتصر على طبقة دون أخرى.
تحت المعالجة
وفي مقالة نشرها الكاتب فاضل السباعي تحت عنوان (لؤي كيالي عاشقاً) كشف عن جوانب كانت مجهولة في حياة لؤي كيالي العاطفية، الذي كان يتعامل مع المرأة بتحفظ، رغم أن الفتيات الحسناوات كن يحطن به من كل جانب، وربما هذا من أسباب عدم زواجه على حد تعبيره كما يؤكد الكاتب: أن لؤي كيالي وقع فريسةً مرض «الفُصام» الـ « شيزوفرينيا». منوهاً أنه كان يلاحظ عليه عوارض المرض, في وقت متزامن مع نمو عواطف الحب بينه وبين الديبلوماسية الشابة «أمل خانجي», التي روت فيما بعد بمذكّراتها الخطيّة الفريدة يوميات هذا الحبّ, بدقة وبمهنية كاتبة وشاعرة. مؤكدة أنها كانت تتفاجأ بغرابة بعض تصرفاته. الشيء الذي تطلب معالجته في بيروت. وهنا يلتقي مع فان غوخ الذي كان يلجأ الى طبيبه « غاشيه « في حالات عودة نوبات القلق والإضطراب, إلا أنهما كانا يعودان الى الرسم، للخروج من دوامة القلق والتوتر والاضطراب، فالفن كان هاجسهما الوحيد وصديق عذابهما وأزماتهما الداخلية.
ولأن فان غوخ أحد أكثر الفنانين إثارة للجدل والتساؤلات والاجتهادات والتأويلات والاستنتاجات والتشابكات. يجب ازالة الالتباسات ومعرفة الحقائق، انطلاقاً من مجموعة رسائله لأخيه ثيو، التي تبدو بمثابة مذكرات وسيرة ذاتية للفنان. تماماً مثلما كشفت مذكرات أمل خانجي عن هذا الجانب, وإذا كانت تعابير فان غوخ قد تدفقت على سطح لوحاته بشكل دائم ومتواصل، وبطريقة مفعمة بالألوان القوية وخشونة التقنية والحركة الانفعالية العاصفة، المقروءة في الالتفافات اللونية الناتئة المتموجة والحلزونية، فإن لؤي كيالي عبر عن هذه الحالة بتعاطفه الصريح والواضح مع البؤساء، ولم تكن نهاية حياتهما المأساوية سوى صدى ليومياتهما المفعة بالقلق والمرارة واليأس.
مواضيع مأساوية وزهور
تتشكل في لوحات لؤي كيالي هموم لا تحصى وأوجاع لا تعد، وقد تنقلت موضوعات لوحاته بين اللقطات البائسة للأشخاص، ومشاهد جمالية ملتقطة لمعلولا، والصيادين والمراكب. إضافة إلى لوحات الزهور. كأنه من خلال تصوير الزهور كان يريد إعطاء المشاهد فسحة أمل تنشله، ولو للحظات من دوامة القلق والمعاناة. وهكذا تعامل مع موضوع الورود والزهور، وكأنه عنصر مناقض لحالات البؤس والعذاب والتشرد، فتدرج من التصوير المباشر للإنسان المهمل (ماسح الأحذية على سبيل المثال) الذي رسمه مرات عديدة، وبرؤى مختلفة، لينقل إلينا معاناة البؤساء قبل أي شيء آخر, ولا سيما الأطفال الذين يعيشون مأساة كاملة، الشيء الذي يجعل هذه المجموعة من لوحاته هي الأكثر التصاقاً مع ذاته والأكثر بلاغة في التعبير عن أحلام الطفولة الضائعة أو الهاربة. وأيضا نلمس مواضيع الزهور (وخاصة عباد الشمس) في العديد من لوحات فان غوغ، التي شكلت بالنسبة له فسحة أمل وخلاص وانفلات وانعتاق.
والمعروف عن لؤي كيالي أنه رحل في 26 كانون الأول من عام 1978، متأثراً بحروق أصابته وهو في سريره، تماماً مثلما وضع فان غوغ يده على الجرح النازف، حتى وصل الى غرفته في فندق رافو, الشيء الذي زاد من أحزمة البؤس في حياتهما ومماتهما. ويذكر أن محرك البحث العالمي «غوغل» كان قد احتفى في نهاية الشهر الماضي (كانون الثاني 2019) بذكرى مرور 85 عاماً على ميلاد الراحل الكبير لؤي كيالي.
facebook.com adib.makhzoum
أديب مخزوم
التاريخ: الاثنين 4-2-2019
الرقم: 16901