لكل تطور تقني يحصل في الغرب وينتقل إلينا ضريبته التي ندفعها عن طيب خاطر, لا, بل كثيرا من الأحيان نكون حقل تجارب لما يقود إليه, نفعل ذلك عن طيب خاطر, ونصبح في مهب التجريب والتخريب, لانعرف الحدود التي يمكن أن نقف عندها, بل نمضي إلى حافة الهاوية, نحن ومن يأتي بعدنا من اجيال, هل نتذكر التلفاز, وما رافقه من بث فضائي مرعب فيما بعد، بعد موجة الفضاء المفتوح؟
كيف عمل هذا الجهاز الفظيع على استلابنا من كل شيء, من الحكايا ومن الواقع الاجتماعي الذي على أقل تقدير كان يسمح لنا بالاجتماع والنقاش ولو كنا مختلفين, وانتقل إلى اطفالنا ليغزوهم ويشدهم وليكون مربيا آخر لهم, يتسمرون أمام الشاشات الساحرة التي اعتمدت تقنيات الإبهار, من صور ومشاهد وموسيقا صاخبة, وكل ما يجعل الطفل مسلوب الإرادة, يجلس وعيناه فاغرتان نحو ما يهطل عليه حاملا معه كل ما لايوده, ناهيك بما يجري من مخصبات الكسل التي تغريه بالانقطاع عن العالم كله, والتشبث بما يعرض امامه, وكم من أمراض حلت بنا من جراء ذلك, اجتماعية وصحية وغيرها.
وما كادت موجة البث الفضائي هذه تأخذ مداها حتى جاء الأزرق بكل ما يحمله من آثام وشرور, يسمى في الغرب وكما لدينا مواقع التواصل الاجتماعي, ولكن العقد الاخير الذي حمل إلى هذا الوطن العربي والمسمى كذلك, حمل رياح السموم, حتى تغيرت التسمية, صار بالإمكان القول إنها مواقع التنافر الاجتماعي, ومن ابسط الحكايا التي يمكن للمرء أن يعرضها, تلك الأم التي تأخذ من أولادها أجهزتهم الخليوية حين يأتون لزيارتها, إذ إن كلّ واحد منهم يبدو مشغولا بما بين يديه, لاحديث ولا كلام, الرؤوس منحنية على قطعة صغيرة, جهاز يربطك بالعالم, ولا أحد يدري إلى اين يصل بك, وكيف يفعل, هذا واقع الحال, لا ننظر ولا ندعي شيئا لم تثبته الدراسات العلمية التي اجريت عبر هذا العقد المسمى فضاء الازرق والفيسبوك, وعلى رأي من يتهمه بالكثير (مشتقات الفيسبوك).
دراسات نفسية واجتماعية وطبية استمرت لفترة طويلة, خلصت إلى ان الإدمان على هذا الفضاء يقود إلى التعاسة ومن ثم الكثير من الامراض النفسية والاجتماعية, وبالتالي يعني فيما يعنيه المزيد من الكوارث والآلام التي لا أحد يعرف نهايتها وإلى اين تقودنا, وماذا ستفعل بنا.
وفي مخصبات عقمها وجهلنا بما تحمله وتقودنا إليه الكثير مما تبين, من خلال الدراسات الغربية نفسها, فعلى سبيل المثال صدرت عشرات الكتب في الغرب وهي تناقش وتبحث ما يقود إليه هذا الإدمان الذي نزل كأنه قدر لا مفر منه, لكن الوعي المختلف هناك, وبدعم من المؤسسات الفكرية والاجتماعية تم العمل على تقييد الكثير من سطوته, والخروج الآمن مما يسببه, ففي بريطانيا اجتمع مجلس العموم البريطاني ليستمع إلى آراء الأطباء المتخصصين بعلم الأعصاب عما يسببه المحمول, وخلصوا إلى أن هذا الفضاء الأزرق يجب أن يكون بعيدا عن الاطفال لسن محددة, أما هنا فقد غدونا مجرد أيقونات على الجهاز (واتس, فايبر, أيمو, فيسبوك, مسنجر, يوتيوب, تيلجرام) ولا أحد يدري ماذا سيكون في المستقبل, أدوات تواصل وتفاعل مدهشة حقا بكل شيء, كلّ منا مشغول بها, قد تكون قرب ابنك وأخيك وزوجتك, ولا احد منا يدري ماذا يكتب الآخر, وإلى ماذا تقوده هذه الشاشة الصغيرة التي تبدو كأنها العالم كله.
بعد عقد من الزمن ؟
أتيح لي ان اكون ناشطا في هذا العالم الأزرق, وأن اتابعه بكل شغف منذ أن كان في سورية و لحد الآن, ومن خلال متابعة آلاف الصفحات والاصدقاء و لما يقارب العقد من الزمن, لابد من القول إنه فعل استلاب حقيقي, لنا جميعا, ولا يمكن لاحد أن ينكر أنه إنجاز حضاري وأداة تواصل بكل الاتجاهات والمعايير, ولكن هل بقي كذلك بالنسبة لنا ؟
ما الذي يمكن أن نصل إليه بعد رصد لآلاف الصفحات وملايين المنشورات (البوستات) وما يليها من تعليقات, من مختلف ألوان الحياة, والفكر والقيم, واللاقيم, من الداخل والخارج, من الصديق والعدو, من الفقير والغني, من الموظف وغير الموظف ومن المسؤول وغير المسؤول, من مواقع نظيفة وغير نظيفة, من مواقع وطنية وغير وطنية من كبار وصغار, ما الحصاد الذي يمكن الوقوف عنده والإشارة إليه بكل ثقة؟
هل نقول إننا أمام عالم متشظ, يقودنا إلى الهشيم, بل الاحتراب والمناكفات إن صحت التسمية والمصطلح ؟ ماذا عنه في اللغة والعمل والتفاعل والتحريض, كيف يبدو المشهد العام, وماذا ترك على البنية الفكرية والثقافية, وهل نتجه به إلى الاستخدام الأكثر فاعلية ؟
أسئلة ليس بالامر السهل الإجابة عليها ولا الاقتراب منها إلا من خلال الكثير من المتابعة, وكونه أمرا شخصيا, فلا بأس ان يكون أثر هذا الازرق على المشهد العام أول ما يمكن الوقوف عنده؟
ديب علي حسن
d.hasan09@gmail.com
التاريخ: الأربعاء 6-2-2019
رقم العدد : 16903
التالي