«أحسُّ، أتألَّم، أفرح، أُولد، أعيش، أموت.. كلّ ذلك يشكّل عندي المادة الغنية لخوضِ غمار الشِّعر الذي يتداخل في الأشياء، ويستنهضها للكشف والابتكار، ولبزوغِ فجر الحرية والعدالة، تفتحُ القصيدة صدرها عارياً لتُرضع المصاب بالجفافِ والصقيع، فتبعث فيه الدفء والحركة والحياة».
هذا ما أعلنهُ شاعرٌ مسكون بحبّ الوطن والكرامة الإنسانية.. شاعرٌ، أكثر ما أوجعه فواجههُ، الحروب البشعة التي جعلت الإنسان وقوداً لألسنة أحقادها المتوالية.. هذا ما أعلنهُ الشاعر اللبناني «وهيب عجمي» المتماهي في عقيدته حدّ صرخته: أنا ابن الجنوب المقاوم.. أنا ابن «معركة» وسأبقى أطلقُ قصيدتـي، رصاصة في وجه المحتل، ولعنة على كلّ خائن وغادر وظالم.
إنها قصيدة الحق الذي أشهرهُ في حاضره كما أمسه.. الأمسُ الذي أغرق الذاكرة بنزيفٍ سببتهُ الحروب والمجازر والحرائقِ والعدم، والحاضر الذي عاش بشاعة أمسه، يوم استشعرَ «قلق النجوم» يسري في قوافي الألم:
«بنتُ المكارمِ في المجاهلِ شُرِّدتْ/ وحبيبُها في قلبها قد شُرِّدا/ ذُبحت على مرأى الشهودِ ضعيفة/ وعلى الجريمةِ شاهدٌ لن يشهدا/ ما قيمةُ الدنيا إذا حمَّلتها/ جسداً تقوقع تحت كابوسِ العِدا/ سفكوا دماءَ الأبرياءِ بأرضنا/ إن كنتَ تجهلُ سفكهم فسلِ المدى/ خسئتْ عيونُ الشِّعر يا شعراءَ إن/ لم تُفصِحوا عن رأيكم في المنتدى/ الشّعر ابن قضيةٍ يسمو بها/ إن خَانها يُمسي العميلَ الأرمدا/.
لاشكَّ أنه الألمُ الذي جعل قصيدته، هي صرخة مقاومته.. قصيدة الحياة التي ترفضُ الذل والهوان والاحتلال، وصرخة الكرامة التي أطلقها بنبضٍ شاعرٍ، قال عن سورية ورجالاتها ذات احتفال:
«في القلبِ سورية/ بذلتُ لها دمي/ مجَّدتها أمَّاً أباً وجدودا/ هي تينتي أرضُ العروبة كرمتي/ منها فؤادي يشبهُ العنقودا/ تتكلّم الأشعار زأراً هادراً/ هتفتْ تخاطبُ في الشآمِ أسودا/ إني أتيتُ من الجنوبِ مقاوماً/ فرفعتُ للنجمِ الرفيعِ نشيدا/ لن تكتفي بالمهرجانِ قصيدتي/ فقصيدتي أن أستريحَ شهيدا».
كلُّ ذلك في «قانا وتوبة السكين». الديوان الذي أهداه إلى أرواحِ شهداءِ هذه المجزرة، والذي لعن به العدو الصهيوني ومن صمتَ أمام إجرامه وأحقاده على الأوطانِ المرفوعة برجالها المقاومين:
«لجُرحكِ في الحشا جمرٌ كوانا/ بلاؤكِ يا ابنة الدنيا بلانا/ لنختصر المشاهد يا عيوني/ كفانا من دماؤكِ ما كفانا/ كأنَّكِ قد غدوتِ لنا حريقاً/ تجمَّرَ في المآقي أرجوانا/ لنا في قلعةِ الثوَّار أهلٌ/ أقاموا للشهادةِ مهرجانا/ لنا عربٌ إذا الحيتانُ جاعتْ/ رمونا في خضمِّ من اشتهانا/ صهاينة المجازرِ قد فشلتم/ وأسقطنا بنيسان الرهانا/ قتلتم خيرة الشبّانِ حقداً/ وأنشأتم على الجثثِ الكيانا/ مجازِرُكم عليكم شاهدات/ وليست آخر الشهداءِ قانا/ إذا ماتابَ عزرائيلُ يوماً/ يتوبُ عن التذبيحِ سكِّينٌ رمانا».
حتماً، هو الشعرُ الغاضب والعاتب. الغاضب من عدوِّ وخائنِ الإنسان والحياة والأوطان، والعاتبُ على جيش وطنه الذي استنهضهُ: «أما آن الأوان؟».
«أما آنَ الأوان لأن تعودا/ لنا جيشاً فتقتحم الحشودا/ وتعدمُ من يخون الأرضَ جهراً/ وبالطوفانِ تقتلعُ اليهودا/ نقاومُ كي يسودُ العدلُ فينا/ وغير العدلِ نرفضُ أن يسودا/..
شبابُ جنوبنا أبطالُ عصرٍ/ بميدانِ الوغى قصفوا الرعودا/ وبرقُهم أحالَ الليلَ ناراً/ لهيباً أحرقوا فيه القيودا/ جنوبُ الطُهرِ تحميهِ أسودٌ/ أسودُ الله ماهابتْ جنودا/ يطلُّ الفجرُ مشتاقاً إليهِ/ يعانقهُ يبوسُ لهُ الزنودا/
هكذا يمضي «عجمي» في ديوانه، عازفاً «على أوتار القلب» بمفرداتِ أشجانه.. هكذا يمضي، جاعلاً من النزيف الذي شهدهُ، قصائدَ يُخلّدها وتُخلّده.. تُخلدهُ شاعراً والـ «قسمُ» لديه شعرٌ مرفوعٌ ويستحيلُ أن يُجر.. شعرٌ، يتوعَّد أعداءَ قوافيه، بانتقامِ مقاوميه. رجالُ الجنوب ممن أحالوه إلى «معلَّقه على جبين الدهر»:
هفاف ميهوب
التاريخ: الخميس 14-2-2019
رقم العدد : 16909
