لم يتردد مصطلح سياسي, أو ثقافي أو اجتماعي في حديث السوريين كما هو مصطلح الوطن, حتى غدا المصطلح في السنوات الأخيرة أيقونة كلام, نرددها على مسمع الجميع, من صباحات المدارس إلى بيوتنا, نسمعها, نكتبها, تطالعنا بها نشرات الأخبار اليومية, مَن مع الوطن ومن ضده, غدا المصطلح او الايقونة هوية للكلام, في الوطن كلنا طيبون, معطاؤون, كلنا ننقد الفساد والفاسدين, وكلنا نطمح, بل نذهب بعيدا في التنظير لهذا الوطن, من بائع يستغلك حتى لو يستطيع أن يأخذ منك ثمن الحليب الذي أرضعته إياه امه لفعل ذلك, إلى اطباء ومهندسين وإعلاميين, وكثيرون في القائمة, تكاد تقول إنهم من كان ينفق على مؤسسات الدولة, بل تذهب ابعد من ذلك حتى ترى من تورم وكاد ينتفخ ويتشظى ومن وراء ستائر الخوف في أقبية ما يختبىء خوفا من نسمة برد, أو طلقة كانت, يخرج اليوم ويرى نفسه عظيما بذاته, بل يكاد يقول انا التجلي الاخير للوطن.
في الوطن ومصطلح الوطن ومحنة الوطن التي مررنا بها, ولماّ تنته بعد, لا أحد أكثر نقاء ونضرة وبهاء وعطاء, وعنفوانا ممن حمل البندقية ومضى بلا تردد حاملا دمه على راحتيه مرددا: فإما حياة تسر الصديق وإما ممات يغيظ العدى, بدمه يورق الشجر ويبقى الحجر, وتضاء أيامنا, عاد ورقة غار, عاد مع زهر اللوز, بل انضر, مع بردى مع عذوبة ماء من غيم الجولان يهل, عاد مع بيادر قمح, عاد مع كل نسمة امان نعيشها, جندي ما سأل يوما: كم ستدفعون لي, لم يسأل: هل نقابتي زادت المعاينة, وهل نقابتي رفعت أجور الاستشارات الهندسية ليمتطي الكثيرون أحلام الوهم, جندي ما رفع ما في مخازينه المملوءة بكل ما تريده, مارفع الاسعار مع دولرة حياتنا.
في الوطن, أم شهيد واثنين وثلاثة وخمسة, في الوطن جرحى ومصابون وفي الوطن جراحات كبيرة ودمار وخراب حجر وبشر, في الوطن كل ما تريد والوطن باق حنون, اليف بنا و لم يقل لنا يوما ما: مللتكم, لكنه الآن يصرخ: كفوا عن نفاقكم, كونوا مع ذواتكم الآن مرة واحدة, كونوا مع آبائكم, مع جراح من صانوا حياتكم, انظروا بعين الرحمة إلى تراث عشرة آلاف عام, مالكم وكأنكم سباع ضارية تنهش كل شيء أمامها؟
ما الخطب, ألا ترون هذا التراب مغنما, أنت أيها الطبيب الفار من خدمة وطنك, هل تعرف كم من الفقراء دفعوا لك حتى غدوت كما أنت, هل تعرف كم من الناس حرموا وجاعوا, وتعبوا,انت ايها التاجر: هل تذكر كم في رصيدك من أموال مكدسة, هي من دمنا وعرقنا,انتم كلكم يامن ترون الوطن فندقا وسمسرة: هل نصرخ بصوت ملء الدنيا كفاكم, لقد دنستم كل شيء؟
سنفعل, إن لم نصرخ اليوم بهذه القوة والألم فغداً سنفعل, ولكن مهلا: لن نفعل لأن للوطن من يحميه, من يعرف إلى أين وكيف يتجه به ساعة الشدائد, في الوطن رجال الميدان, ووعد النصر, في الوطن طبيب ومهندس وعامل وجندي ومدرس, في الوطن من مائه إلى مائه, إلى جنوبه, رمله حصاه, جباله وهاده, فيه من يعرف أن الدرب طويل, والفداء مطلوب ويدفع, لكنه يراكم صغارا, صغارا, اغضبكم ذلك أم لا..
في الوطن الهوية واللغة والانتماء, والقدرة على الاجتراح, نعرف من أين نبدأ وكيف ننتصر, لاالسماء الزرقاء التي حولها البعض من فعل خصب إلى ماء آسن تنفعكم, ولاشيء غير هذا الانتماء..
في أبجديات الحياة الأولى ويوم كنت اظن أن الوطن قريتنا وبيتنا, ومن يظن ذلك ويدافع عن وطنه الأصغر ينتمي إلى الوطن الأكبر, يومها كنا نرعى الابقار, تاهت إحداهن, وظلت يومين لم تعد, شعرت بمسؤوليتي عن ذلك لكن امي لم تبد امتعاضا, ولم تعلن حزنها, سألتها: كيف سنجد البقرة؟ ردت بهدوء: ستعود وحدها, أكلت وشربت هنا, ستعود وكيف ستعود, ونحن نحرث الارض عليها, لن تعود, لن تعود ولكنها عادت, وعادت, واليوم ادركت أن الكثير ممن يعلف خير ممن..تحرث على الأبقار وتضيع وتعود لا شيء يمنعها من العودة, تعود لأن حرثها يعني يوما ما أنه قمح وتبن وعلف لها, تعود, اراهن على عودة قطيع.. ولا أراهن على من رأى خلال ثماني سنوات من حقائق العدوان علينا و مازال ذيله يلوح بفعل المخصبات, ويحرك كما الدمى, صباحك وطنيا بهيا, نقيا, ولو كانت جراحنا أكبر من خريطة الجسد, لكننا مقبلون على الصبح مهما طال الليل.
دائرة الثقافة
التاريخ: الخميس 28-2-2019
الرقم: 16920