لايعرف الشوق إلا من يكابده, ولا الصبابة إلا من يعانيها, وهل نضيف: لا يعرف قيمة الوطن إلا من آمن به ماضيا وحاضرا, إلا من يعيشه هما وعطاء ووعدا, ولايراه مغنما وفندقا يحزم حقائبه ويمضي حين لايوفر له الكثير مما كان يفعله قبل أن تحل به محنة أو واقعة, لن يعرف التراب الطهر المقدس إلا من ذاق مرارة الحرمان واستطاع أن يحيل الصخر إلى بيادر قمح, لايعرف الوطن إلا من ولد على ترابه ونبت في ربوعه, ومضى يدرج في مرابعه بعيدا عن كل ما يشوه هذا التاريخ الناصع.
لسنا شوفيين, ولا عنصريين, ولكن علينا أن نعي أننا الجذر الحقيقي لكل مقومات الحضارة التي تراكمت لتكون هكذا, لن نمل القول إننا جذر الحرف واللون, والصناعة والزراعة والحكمة والعطاء, لن نمل من القول إن اباطرة سورية حكموا روما وكانوا الوجه الحقيقي لكل فعل ثقافي, لن نمل أن نذكر أن معظم شعراء أثينا بمرحلة ما كانوا من سورية, لن ننسى أن اول مكتبة كانت في إبلا, ولن ننسى أن الحكمة السورية تقول: لا تشتم ربا يعبده غيرك, وحكمة اخرى تقول: حطم سيفك واتبعني لنزرع القمح والمحبة.. لن ننسى أننا كنا ونحن نضمد جراحنا نرسل من قمحنا ومائنا ودوائنا لكل محتاج في الجنوب أو الغرب, او اي بقعة عربية.
هل ننسى ان المبدعين والكتاب السوريين, من أساتذة جامعات كانوا وراء النهضة التربوية في أرجاء المسمى وطن عربي, هل نذكركم بالحصري, وغيره؟ لن نفعل فكل خطواتهم موجودة راسخة, لكن ثمة ثعالب لا تعرف إلا المكر والخديعة لا تريد أن تعترف, سورية بلاد الشمس, وعمود السماء, وقلب العالم, ولّادة لا تقف عند جراح ما, تبلسمها تمضي نحو أفق جديد, تعرف كيف تعيد صياغة اليوم ليكون الغد (لو نقاتل الحلك الباغي ننتصر).
أليس هذا ما رآه الراحل الكبير سليمان العيسى, وهو الذي اختزل المعادلة الخصبة بالقول: عند الشهيد تلاقى الله والبشر.. وهل اعظم من ذلك أي فعل, أي عطاء, وعلى ما قاله شاعر العربية بدوي الجبل:
يعطي الشهيد فلا والله ما شهدت
عيني كإحسانه في القوم إحسانا
وغاية الجود أن يسقي الثرى دمه
عند الجهاد ويلقى الله ظمآنا
نعم يلقاه ظمآن, طيبه من نور, جسده من خضرة الوجود, وهل من نبل أقدس من نبل الشهادة, وفعل أروع من فعل العطاء الإنساني, وبعد أليس بضدها تتميز الاشياء؟ عمود السماء السوري باق صلب, ثابت من سماء الوجود الأول إلى ان يطوى الكون ابحارا ويابسة, لن ينكسر, لن يهزم, تلحق به جراحات, نعم, لكنها تزهر أملا, وعدا, ليس إنشاء ابدا, إنما حقيقة راسخة, أعيشها مع كل طفل, مع كل بسمة, مع كل شهيد يرتقي مع أب ينتظر جثمان ابنه الشهيد ويردد: أي جثمان هو لابني؟
مساء أمس كانت صغيرتي (حفيدتي) مايا تلوذ بي لأحكي لها حكاية ليلى والذئب, لكم الحقيقة, لا أعرف كيف أرويها لها, بدأت برواية ملتوية, تصحح لي تارة, وتارة أصمت, حين توقفت عن السرد قالت لي: جدو هل تعرف كرم رفيقي بالروضة؟ لا, جدو لا أعرفه, من هو؟ وتمضي بنت الثالثة والنصف لتصفه, وأسألها من اين هو؟ تنظر إلي: جدو من سورية, وأنت من أين يا مايا؟ انا من سورية؟ لا, جدو من اي مدينة جدو أنت, قلت لك من سورية, وكرم من سورية.. لهؤلاء لبراعم الأمل حراس الغد لابد أننا بهم منتصرون, ولهم نمضي لنغسل أدرانا ألحقت بنا عنوة, سورية الوعد والحق ونبض القادم, سورية ملء الكون والتاريخ, من بدء الخليقة إلى نهاية المطاف.
دائرة الثقافة
التاريخ: الثلاثاء 5-3-2019
رقم العدد : 16924