في السياسة لغة المصالح والمكاسب والأطماع لا مكان للمصادفة البحتة، فكل شيء مدروس ويتم التخطيط له بعناية ودقة للوصول إلى الأهداف المتوخاة، وخاصة عندما يتعلق الأمر بأمور مصيرية وحساسة وقضايا لها تأثيرات كبرى كاغتصاب فلسطين وما أفرزه هذا الحدث الشاذ من صراع وطويل بين العرب أصحاب الحق وبين الصهاينة مغتصبي الأرض والحقوق، وقضية الجولان العربي السوري المحتل تأتي في سياق هذه القضية ولا تنفصل عنها لأن المغتصب لكليهما له نفس المشروع التوسعي العدواني الاحتلالي، غير أن الأطماع الإسرائيلية بالجولان كانت سابقة لقيام الكيان الصهيوني على أرض فلسطين في العام 1948، حيث تشير بعض المعلومات إلى أن اهتمام الصهاينة بالجولان بوصفه موقعاً استراتيجياً مهماً في قلب سورية يعود إلى بدايات تأسيس الحركة الصهيونية إذ ورد ذكر منطقتي الجولان وحوران في خطابات وأحاديث العديد من زعماء الحركة الصهيونية ومنهم تيودور هرتزل وديفيد بن غوريون، وقد انتقل هذا الاهتمام من حيز الفكرة إلى حيز التطبيق بقيام إسرائيل باحتلال الجولان عام 1967 واستصدار قرار بضمه في العام 1981 خلافاً للشرعية الدولية وقرارات مجلس الأمن التي تحرم الاستيلاء على أراضي الغير بالقوة، لكن هذه الإجراءات لم تقدم لإسرائيل ما كانت تسعى إليه وبقيت هذه الإجراءات موضع استنكار ورفض العالم بأجمعه حتى الحليف الأميركي.
ومنذ ذلك الحين وحكام الكيان يسعون عبثاً للحصول على أي اعتراف دولي «بشرعية» عدوانهم واحتلالهم اللاشرعي لهذه البقعة الجغرافية الغالية من أرض سورية، إلى أن أقدم دونالد ترامب قبل أيام على هذه الخطوة الرعناء التي لم تسعفه صهيونيته المبالغ بها كي يتبصر بتداعياتها المحتملة، ما يطرح العديد من التساؤلات حول التوقيت الذي اختاره ترامب لارتكاب موبقته الدنيئة وإعطاء ما لا يملك لمن لا يستحق على طريقة سيئ الذكر صاحب الوعد المشؤوم آرثر بلفور الذي قدم فلسطين للصهاينة دون أي مسوغ قانوني أو أخلاقي أو شرعي.
منذ بداية الحرب الارهابية العالمية على سورية في العام 2011 بدا جلياً أنها حرب صهيونية على سورية وتستهدف استكمال السيطرة على الجولان ، ولم تكن مجرد مصادفة أن تسيطر جماعات إرهابية تتبع لتنظيم القاعدة على شريط حدودي مع الجولان المحتل بمساندة ودعم لوجستي من كيان الاحتلال وأحياناً دعم عسكري مباشر، وقد فضحت التطورات المتلاحقة فيما بعد مخططات العدو في هذا الإطار، حيث أفصح عن رغبته بإقامة منطقة عازلة أو سياج أمني على تخوم الجولان المحتل، ينشط فيه جيش من المرتزقة والإرهابيين ـ على شاكلة جيش العملاء اللحديين في جنوب لبنان قبل العام 2000 ـ وذلك بدلاً من قوات الأندوف الدولية التي يذكر وجودها في منطقة ما يسمى فض الاشتباك بالقرارين الدوليين 242 و338 اللذين يدعوان صراحة لانسحاب القوات الإسرائيلية من الأراضي التي احتلتها في النزاع الأخير أي حرب عام الـ67، ومعلوم أن الجولان العربي السوري كان في مقدمة الأراضي المقصودة لأن الجمهورية العربية السورية هي التي سعت لاستصدار القرارين المذكورين من مجلس الأمن وقد صدرا بإجماع أعضاء مجلس الأمن بمن فيهم الولايات المتحدة، وحين عجز قرار الضم الإسرائيلي للجولان في العام 1981 في الحصول على «الشرعية» المطلوبة بسبب القرار الأممي ذي الرقم 497 الذي تعاطى مع قرار الكنيست الإسرائيلي بضم الجولان كقرار لاغ وباطل وليس له أي فعالية قانونية على الصعيد الدولي، لم يكن أمام حكام تل أبيب سوى استخدام نفوذهم في داخل الولايات المتحدة عبر اللوبي الصهيوني المتحكم بمفاتيح صنع القرار الأميركي لانتزاع اعتراف دنيء بشرعية احتلالهم البغيض للجولان كالذي أقدم عليه ترامب قبل أيام، فما دلالة التوقيت الذي جاء فيه قرار ترامب..؟!
يمكن القول إن فشل الحرب الارهابية على سورية في تأمين منطقة آمنة أو عازلة للكيان الصهيوني على تخوم الجولان المحتل، واندحار الجماعات الارهابية التي تم التعويل عليها لحراسة هذه المنطقة، واضطرار الولايات المتحدة الأميركية للتفكير بسحب قواتها من سورية بعد سقوط معظم الذرائع التي استخدمتها للتدخل في سورية، قد عجّل في تبني ترامب لهذا القرار غير القانوني وغير الشرعي، يدفعه إلى ذلك أيضاً حرصه على تقوية موقف حليفه نتنياهو في انتخابات الكنيست الإسرائيلي المقررة الشهر المقبل، حيث تبدو المنافسة شديدة مع خصومه، ما دفع صحيفة هآرتس الإسرائيلية للقول إن إعلان ترامب بخصوص الجولان بمثابة «هدية الانتخابات لنتنياهو»، كما لا يخفى على أحد أن هرولة بعض الأنظمة العربية «الخليجية» للتطبيع المجاني مع إسرائيل واستعدادهم العلني لإنجاح وتمرير صفقة القرن بخصوص تصفية القضية الفلسطينية ـ وهو مشروع ترامب ونتنياهو المشترك ـ قد شجع ترامب كثيراً على اتخاذ مثل هذا القرار اعتقاداً منه أنه سيمر بسهولة ودون ضغوط دولية أو عربية كما مرّ قرار الاعتراف بالقدس عاصمة أبدية للكيان الصهيوني ونقل السفارة الأميركية إليها.
وفي التوقيت أيضاً يأتي إعلان ترامب عشية المؤتمر السنوي لمنظمة «إيباك» أو ما يسمى لجنة الشؤون العامة الأمريكية الإسرائيلية أو ما يعرف باللوبي الصهيوني صاحب النفوذ الكبير في الولايات المتحدة ـ حيث وجهت الدعوة لنتنياهو من أجل حضوره ومن أجل أن يكون حاضراً في حفل توقيع ترامب على اعترافه الدنيء والمشين بضم الجولان السوري إلى كيان الاحتلال، ومعلوم أن ترامب يحتاج لدعم هذا اللوبي بالتحديد من أجل التغلب على محاولات عزله داخلياً بسبب شبهة التلاعب بالانتخابات الرئاسية، وكذلك ضمان الفوز بولاية رئاسية ثانية، وعلى قاعدة خدمة بخدمة، فكما يحتاج نتنياهو لدعم ترامب في مواجهة تهم الفساد الموجهة إليه من القضاء الإسرائيلي، وهزيمة خصومه في انتخابات الكنيست المقررة في نيسان القادم، كذلك يحتاج ترامب لدعم نتنياهو واللوبي الصهيوني من أجل التخلص من المشكلات الكثيرة التي يعانيها.
الاعتراف الأميركي بسيطرة إسرائيل على الجولان المحتل له العديد من الدلالات والمؤشرات، فهو يعكس متانة التحالف الاستراتيجي القائم بين واشنطن وتل أبيب مع وجود إدارة متصهينة على استعداد لفعل أي شيء يخدم الأطماع الإسرائيلية في المنطقة، فمنذ احتلال الجولان قبل 52 عاما لم يجرؤ ثمانية رؤساء أميركيين تعاقبوا على حكم أميركا منذ احتلال الجولان على هذه الخطوة الحمقاء لإدراكهم مدى خطورتها على المنطقة وعلى إسرائيل نفسها.
ومن الدلالات أيضاً أن إدارة ترامب لا تعترف بشرعية دولية أو قانون دولي رغم وجود العديد من المؤسسات الدولية على أراضيها، بل أكثر من ذلك، وهو استعدادها للتنكر لكل ما وقعت عليه أو التزمت به الدولة الأميركية، وهذا يؤكد مدى استخفافها بكل المواثيق والمعاهدات والقرارات الدولية، ما يجعلها خطراً حقيقياً وداهماً على الأمن والسلم الدوليين، لأن من شأن خطوة مثل هذه أن تجر إلى حرب واسعة في المنطقة، فمن حق سورية الدولة المحتلة أرضها أن تستعيدها بكل السبل والوسائل الممكنة التي أجازها القانون الدولي بما في ذلك استخدام القوة، بعد أن أعطت للدبلوماسية والمفاوضات فرصا كثيرة على مدى أكثر من أربعين عاماً ولم تؤتِ ثمارها.
يشير تصرف ترامب أيضاً إلى التماهي الكامل مع اليمين الإسرائيلي المتطرف الذي يمثله نتنياهو وحزبه واستعداده للسير أبعد من ذلك في خطوات عدوانية من شأنها أن تفجر المنطقة والعالم، ونقصد هنا الأزمة مع إيران حيث يحلم نتنياهو بسيناريو الحرب أكثر من أي سيناريو آخر.
كما يشير تصرف ترامب إلى أنه قد حصل على موافقة وضوء أخضر من بعض الأنظمة العربية التي تطبع سراً وعلناً مع إسرائيل، وأن هؤلاء جاهزون أكثر من أي وقت مضى للمضي قدما في تصفية القضية الفلسطينية وتحقيق تطلعات الكيان الصهيوني ببناء «دولته العنصرية» على حساب الحقوق العربية، لأن أكثر ما يعنيهم هو بقاء عروشهم ولو انهارت المنطقة برمتها.
وعلى أي حال أياً يكن توقيت إعلان ترامب ودلالاته بخصوص الجولان فإن ذلك لا يغير في الأمر شيئاً، فالجولان هو قطعة غالية من أرض سورية وسيعود عاجلاً أم آجلا إلى وطنه الأم، لأن في الجولان شعباً متجذراً في أرضه لا يتنازل عن حقوقه وأرضه مهما كانت المغريات، ومن خلفه دولة وشعب وجيش وقيادة وضعوا نصب أعينهم تحرير الأرض مهما غلت التضحيات، وقد أثبتت سنوات الحرب الثمانية أن المستحيل ليس سورياً بعد النصر الذي حققه أبناء سورية على الارهاب ورعاته في المنطقة والعالم.
عبد الحليم سعود
التاريخ: الثلاثاء 26-3-2019
الرقم: 16940