شاعرة القصيدة

جاءت مُعذّبَتي في غَيهبِ الغَسَقِ كَأنّها الكَوكَبُ الدريُ في الأُفُقِ
فَقُلتُ نَورتِني يا خَيرَ زائِرَةٍ أما خَشيتِ مِنَ الحُراسِ في الطُرُقِ
فَجاوَبتني ودَمعُ العَينِ يَسبِقُها مَن يَركبِ البَحرَ لا يأمن من الغَرَقِ
هذه الأبيات الثلاثة نظمها الشاعر والفيلسوف والطبيب والوزير الأندلسي لسان الدين بن الخطيب (1313- 1374م) ولقب بذي الوزارتين: الأدب والسيف، ونـُقِشت أشعاره على حوائط قصر الحمراء بغرناطة، وترك نحو ستين كتاباً في الأدب والتاريخ والجغرافيا والرحلات والشريعة والأخلاق والسياسة والطب والبيزرة (علم الطيور الجارحة والأرجح أنه اشتقاق من اسم الباز أو البازي أشهر صقور الصيد وأمهرها) والموسيقا والنبات والفلسفة، وقد أُحرق الكثير منها خلال النزاعات بين حكّام الأندلس، كما أن ابن الخطيب نفسه كان ضحية لتلك النزاعات والمؤامرات فُقتل خنقاً في سجنه من قبل أعدائه وحاسديه قبل أن يدفع عن نفسه التهم التي كان سيحاكم على أساسها.
هذه الأبيات سمعناها بصوت فيروز في واحدة من أجمل أغاني (الأندلسيات) بعد إلغاء البيت الرابع منها (قَبلتُها قَبلتني وهي قَائِلةٌ قَبّلتَ خَدي فلا تَبخَل على عُنُقي)، جرياً على عادة الرحابنة في تجنب الوصف الحسّي، وإبدال كلمة لا يأمن بكلمة لا يخشى لضرورة اللحن، وإذا كان اسم صاحب هذه الأبيات معروفاً (وخاصة بالنسبة للمهتمين بالشعر العربي)، فإن قلائل ربما يعلمون أن الصوت الرخيم الذي يتلو الأبيات في مطلع الأغنية هو صوت عاصي الرحباني، وربما أن قلائل أيضاً يعرفون أن هذه الأغنية ليست من ألحان الرحابنة – كما يرد في كثير من المواقع الالكترونية – وإنما من إبداع الملحن السوري الكبير محمد محسن، وإحدى أربع أغانٍ من الشعر العربي التقليدي لحنها لها إلى جانب سيد الهوى (كلمات الأخوين رحباني)، لو تعلمين (جميل بثينة) أحب من الأسماء (قيس بن الملوح)، و ولي فؤاد، وقد اختار لها الرحابنة توليفة من أبيات منتقاة من قصائد رائعة، فالبيتان الأوليان:
ولي فؤادٌ إذا طال العذابُ بهِ هامَ اشتياقاً إلى لُقِيا مُعذِّبهِ
يفديك بالنفس صبٌ لو يكون لهُ أعزُّ من نفسهِ شيءٌ فداكَ بهِ
هما من قصيدة للشاعر الوأوأ الدمشقي
والبيتان التاليان
وكنتَ وعدتني يا قلبُ أنّي إذا ما تُبْتُ عن ليلى تتوبُ
فها أنا تائبٌ عن حُبِّ ليلى فمالكَ كلّما ذُكرَت تذوبُ
تنسبهما بعض المصادر إلى الشاعر والموسيقي السوري ميخائيل بن خليل خيرالله ويردي، وتنسبها مصادر غيرها إلى قيس بن الملوح.
أما البيتان الأخيران
نبكي على الدُنيا وما من معشرٍ جمعتهمُ الدُنيا فلم يتفرّقوا
وعَذلتُ أهلَ العشق حتّى ذُقْتُهُ فعجبتُ كيف يموتُ من لا يعشقُ
فهما من نوادر شعر الغزل التي نظمها المتنبي
كل ما سبق، وسواه، جزءٌ يسيرُ مما تقدمه هيام حموي في برنامجها الإذاعي (شاعرة الصوت.. فيروز القصيدة) الذي يذاع منذ مطلع شهر رمضان الكريم، فهذا البرنامج الصباحي الذي يجذب عشاق فيروز والرحابنة، وعشاق الشعر العربي بآن معاً، يقدم في نصف ساعة وفيرة المتعة جولة وافية مع القصائد والأشعار التي غنتها فيروز لكبار شعراء العربية، قديمهم وحديثهم، تتضمن الأغاني والذكريات والحكايات والآراء النقدية، والمعلومات الثرية، وأحياناً النادرة، عن الأشعار والشعراء الذين غنت لهم فيروز ضمن المشروع الرحباني، وإذ أقول المشروع الرحباني فلأنه لم يقتصر على ألحان الرحابنة وحدهم، وإنما شارك فيه ملحنون مجيدون آخرون، مثل محمد محسن – كما سبق – وزكي ناصيف، وفيلمون وهبي، ونجيب حنكش الذي لحن (أعطني الناي وغني) رغم أن حنكش لم يكن ملحناً، ولا عارفاً بكتابة النوطة الموسيقية، لكنه صاحب إحساس لحني عميق أدركه عاصي فطلب منه تلحين قصيدة جبران الساحرة ونجح كلاهما في الرهان. وطال المشروع الرحباني عمالقة التلحين خارج لبنان وسورية أيضاً، وفي المقدمة محمد عبد الوهاب.
في إعداد برنامجها البهي، المترف بالمتعة والمعرفة، اعتمدت هيام أرشيفاً ثرياً من النصوص المنشورة، والمذكرات الشخصية، واللقاءات الإذاعية، والتسجيلات الغزيرة الشهيرة، والمغمورة، والنادرة، مما لا تستطيع توفيره إلا إعلامية قديرة ومثقفة ومثابرة، وعاشقة للكلمة واللحن، وعارفة – إلى حد أن تكون مرجعاً – بالتجربة الرحبانية وعاشقة لها. وقد استطاعت بفضل ما سبق، وبفضل خبرتها وكفاءتها وحُسن انتقائها أن تصوغ حلقات متكاملة وغير متماثلة، تعطي صورة وافية عن أكثر التجارب الفنية العربية ثراءً إبداعياً وثقافياً شعرياً، يتداخل فيها الشعر واللحن والأداء بسحر يصعب وصفه. وقد خصصت حلقات بأكملها لأسماء مبدعة من الشعر الجاهلي والأموي والأندلسي والعباسي والمهجري، ممن صادقهم الرحبانيان وفيروز حين تعرفوا بعمق على روائعهم فانتقوا بحسهم الشعري الرفيع بعضها وأعادوا إحياءها في زمننا. وفي زمننا ربطتهم صداقة واقعية مع كبار الشعراء في سورية ولبنان فلحنوا أشعار بدوي الجبل وعمر أبو ريشة ونزار قباني وسعيد عقل..
وما انتهى الكلام.. بهذه العبارة تختم هيام حموي كل حلقة من برنامجها الرائع..
وهي عبارة تصح عند الحديث عنه..
إضاءات
سعد القاسم

www.facebook.com/saad.alkassem
التاريخ: الثلاثاء 21-5-2019
رقم العدد : 16982

 

 

 

آخر الأخبار
10 أيام لتأهيل قوس باب شرقي في دمشق القديمة قبل الأعياد غياب البيانات يهدد مستقبل المشاريع الصغيرة في سورية للمرة الأولى.. الدين الحكومي الأمريكي يصل إلى مستوى قياسي جديد إعلام العدو: نتنياهو مسؤول عن إحباط اتفاقات تبادل الأسرى إطار جامع تكفله الإستراتيجية الوطنية لدعم وتنمية المشاريع "متناهية الصِغَر والصغيرة" طلبتنا العائدون من لبنان يناشدون التربية لحل مشكلتهم مع موقع الوزارة الإلكتروني عناوين الصحف العالمية 24/11/2024 رئاسة مجلس الوزراء توافق على عدد من توصيات اللجنة الاقتصادية لمشاريع بعدد من ‏القطاعات الوزير صباغ يلتقي بيدرسون مؤسسات التمويل الأصغر في دائرة الضوء ومقترح لإحداث صندوق وطني لتمويلها في مناقشة قانون حماية المستهلك.. "تجارة حلب": عقوبة السجن غير مقبولة في المخالفات الخفيفة في خامس جلسات "لأجل دمشق نتحاور".. محافظ دمشق: لولا قصور مخطط "ايكوشار" لما ظهرت ١٩ منطقة مخالفات الرئيس الأسد يتقبل أوراق اعتماد سفير جنوب إفريقيا لدى سورية السفير الضحاك: عجز مجلس الأمن يشجع “إسرائيل” على مواصلة اعتداءاتها الوحشية على دول المنطقة وشعوبها نيبينزيا: إحباط واشنطن وقف الحرب في غزة يجعلها مسؤولة عن مقتل الأبرياء 66 شهيداً وأكثر من مئة مصاب بمجزرة جديدة للاحتلال في جباليا استشهاد شاب برصاص الاحتلال في نابلس معبر جديدة يابوس لا يزال متوقفاً.. و وزارة الاقتصاد تفوض الجمارك بتعديل جمرك التخليص السبت القادم… ورشة عمل حول واقع سوق التمويل للمشروعات متناهية الصغر والصغيرة وآفاق تطويرها مدير "التجارة الداخلية" بالقنيطرة: تعزيز التشاركية مع جميع الفعاليات