لم تتوافر لي وثيقة تحدد يوم ولادة الفنان المعلم فاتح المدرس، غير أن المتفق عليه أن ذلك كان في حلب عام 1922، وعلى هذا فإن الذكرى المئوية لولادته ستكون هذا العام. هي ذكرى تتخطى بعيداً فضاء إنسان واحد لتشمل حياة إبداعية بكاملها إذ استطاع المدرس، بحكم حضوره الشخصي الاستثنائي، أن يؤكد أهمية الفن المعاصر، وأن يكرّس اتجاه الحداثة في الفن التشكيلي السوري، رغم الأمية الفنية الواسعة التي تسود مجتمعه الذي لم يكن قبوله لهذه التجربة المتقدّمة بفعل إدراكه لها، بقدر ما كان نتيجة قوة هذا الحضور الشخصي الثقافي الذي تجلّى في تجربته التشكيلية أولاً، وفي غناه المعرفي والفلسفي والفكري، وتنوع اهتماماته وتعددها، كشاعر وكاتب قصة قصيرة، وعازف حر على البيانو.
شهد فاتح المدرس باكراً مقتل أبيه على يد عصبة من المستبدين فتوّلت عمة له رعايته، لكنه لم يستطع العيش معها بسبب اعتراضها على ميوله الفنية المبكرة ووقوفها في وجه رغبته في الرسم، وأمام إلحاحه الشديد أعيد إلى أمه المعدمة التي بذلت جهوداً شاقة لتنشئة أولادها، ومتابعة دراستهم في الوقت الذي شجعت فيه اهتماماته الفنية. هذا الأثر الكبير لأمه في حياته ظهر مراراً في لوحاته حيث يتحد وجهها مع تفاصيل الأرض التي عرفها في طفولته. درس فاتح الفنون واللغة الانكليزية في حلب وعاليه، وشارك عام 1947 في معرض الفنانين العرب في (بيت مري) ومن ثم في المعرض الأول للفنانين التشكيليين السوريين في مدرسة التجهيز الأولى بدمشق.
بدأت إبداعات فاتح التشكيلية تواجه المشاهد فعلياً منذ العام 1950 يوم أقام معرضه الفردي الأول في نادي (اللواء) بحلب. ثم جاء عام 1952 ليكون العام الأهم في تجربته، ففيه شارك في معرضين أحدهما: في الولايات المتحدة والثاني: في السويد، إلا أن الحدث الأكثر أهمية كان نيل لوحته (كفر جنة) الجائزة الأولى في المعرض السنوي الثالث للفنون التشكيلية في المتحف الوطني بدمشق. وهي اللوحة التي اعتبرت فاتحة اتجاهات الحداثة في الفن التشكيلي السوري. وبعد ذلك بعامين سافر إلى إيطاليا حيث درس لمدة ست سنوات في أكاديمية الفنون الجميلة فيها عاد بعدها ليدرّس في كلية الفنون الجميلة في جامعة دمشق، حتى عام 1969 حيث سافر للدراسة في أكاديمية الفنون الجميلة في باريس. وخلال فترة إقامته في فرنسا تعرف على (جان بول سارتر) الذي قام بترجمة بعض أشعار المدرس.
أعلنت لوحة (كفر جنة) عن انطلاق اتجاه للحداثة في الفن التشكيلي السوري يستمد مصادره من الطبيعة والناس في البيئة المحلية، ومن أساطير الأقدمين فيها وتراثهم الإبداعي المتمثل في نتاجات الفن الآشوري والآرامي والتدمري، وكذلك من أحداث الزمن الراهن. ولذلك فإن فاتح المدرس يرد على الذين يضعون تجربته في إطار إحدى المدارس التشكيلية بقوله :إنه ليس تجريدياً ولا سريالياً ولا تعبيرياً، وإنما هو شاهد على جمال الأرض والإنسان كما هو شاهد على أحزان عصره.
إن اعتبار البيئة المحلية مصدراً أساسياً لأعمال المدرس إنما يؤكده حضورها القوي فيها ويكفي تأكيداً لذلك استعراض أسماء لوحاته بدءاً من لوحته الأشهر (كفر جنة) في غرب حلب، حيث نجد لوحات تحمل أسماء مثل: صلاة البادية السورية، نساء من بقين، قصص الجبال الشمالية، من الشمال السوري، وادي بردى، مرتفعات بلودان، التدمريون، فتيات تدمريات.. إن أهم تأثيرات البيئة المحلية في تجربته تظهر من خلال الحضور الدائم لسهول الشمال السوري في لوحاته بتقطيعاتها الهندسية المتراصة ومداها اللا منتهي، أما تأثيرات التراث الفني المحلي فتظهر من خلال أسلوب بناء اللوحة، وفي الأشكال المعاد صياغتها للفنون السورية القديمة والتي تكاد لا تغيب عن أي من لوحاته، وتزيد ألوانه المشبعة بلون تراب الأرض، والتي مزج معها أحياناً تراباً حقيقياً، انتماء تجربته إلى خصوصيتها المحلية. تلك الخصوصية التي لم تؤثر في تميزها سعة معرفته بالثقافة العالمية، وانفتاحه عليها، وعلى أجناس الإبداع المختلفة بحكم إقامته الدراسية في أوروبا. لم يكن لمرحلته الأوروبية أن تفعل شيئاً أكثر من ترسيخ اتجاهه المحلي وهويته المتفردة المميزة. وقد أجاب حين سئل مرة عما أضافت أوروبا اليه بأنه جاء اليها بخيال مليء بالصور. والفريد – أيضاً – في فاتح المدرس أنه، وهو الوثيق الصلة بالأدب والكلمة معرفة وإنتاجاً، عمل طوال حياته على تخليص اللوحة من الأثر الأدبي مترجماً بذلك فهمه العميق لخصوصية كلّ من الأدب والفن.
انتخب فاتح المدرس نقيباً للفنون الجميلة وشغل هذا الموقع سنوات طويلة، وعمل مدرساً في كلية الفنون الجميلة وأستاذاً في قسم الدراسات العليا فيها، وكان تأثيره كبيراً للغاية على طلابه فساهم بفعالية بدفعهم نحو إطلاق حريتهم الإبداعية، والبحث في التراث المحلي والموروث الإبداعي. وكثيراً ما ساهم بالحديث عن تجاربهم في الندوات التي تقام بمناسبة معارضهم، كما قدّم لكثير من المعارض.
رحل فاتح المدرس عن عالمنا في الشهر السادس عام 1999. تاركاً سيرة ثرية لمبدع استثنائي، كان – باختصار شديد – مشروعاً ثقافياً في كيان إنسان واحد، وعلماً من أعلام الثقافة على امتداد نصف قرن.
إضاءات – سعد القاسم