لم أفاجأ – بالمعنى الحرفي – حين قرأت على صفحة الصديق منصور ابراهيم نعي الفنان الشاب فداء منصور. لكني – بالمعنى الحقيقي – شعرت – وما أزال – بالكثير من الألم والأسى من ذلك الحدث القاسي الذي أودى بشاب في مطلع العمر، وبتجربة فنية كانت تعد بالكثير.
التقيت فداء منصور لأول مرة في اليوم التالي لافتتاح معرضه الفردي الأول في صالة أدونيا خلال شهر آذار (مارس) 2019. كانت القسوة التي تهيمن على ملامح وجهه تتناقض كلياً مع اللطف، الذي يكاد يكون طفولياً في حديثه، وفي ترحيبه. جلنا المعرض بتريث، خاصة أنه لم يكن هناك أحد كما هي العادة بعد يوم الافتتاح، توقفنا عند كلّ لوحة فيه، وكان سؤاله عن رأيي بتجربته فاتحة حديث صريح امتد لأكثر من ساعة، بدأ من الإشادة ببراعته في نسخ (الجوكندا) وانتهى عند آفاق تجربته الدائرية التي رأيت أنها تُغلِبُ الفلسفة على التشكيل فتقيد موهبته في إطار يحول دون الأفق الرحب. وقبل أن أغادر طلب مني بإلحاح أن أختار أي لوحة أعجبتني كهدية. اعتذرت بشدة لقناعتي أن قبول الكاتب لوحة من فنان هو بمثابة إحراج – إن لم نقل شيئاً آخر – فإن امتدح تجربة الفنان بدا متملقاً، وإذا انتقدها عُدَّ جاحداً. وتكرر هذا السجال بعد أسابيع قليلة حين رسم لي لوحة وجهية (بورتريه) واعتذرت عن قبولها للاعتبارات ذاتها. فكتب: أنا شفت بعيونك محبة، ووضعت لي إشارة إعجاب على صورة لوحتك. أجبته صحيح ما رأيته، لكني وضعت إشارة الإعجاب على البراعة الفنية لا على الموضوع، ملطفاً اعتذاري بأني غير شغوف بالصور الذاتية.
في اليوم التالي لحديثنا الطويل الأول، أرسل لي على البريد الإلكتروني يطلب رأيي في معرضه فلما أجبته أني أخبرته به، كتب لي: «سيكون نقدك ممتع القراءة.. ولن أنساه حتى لو كان سلبياً». وأردف أنه يرغب بنشر رأيي على صفحته، فكتبت: كانت زيارة معرض الفنان فداء منصور، بالنسبة لي، مفيدة وممتعة. وكان الحوار ثرياً وجاداً. أرى أن الفنان يشرع في تجربة هامة لا أستطيع التكهن بنتائجها. وأعتقد، من وجهة نظري، أن نجاحه القادم مرتبطٌ باختيار مسارٍ محدد من المسارات العديدة التي لا يزال فيها، والتي تجعل معرضه يبدو وكأنه معرضٌ يستعيد تجارب من مراحل سابقة، أكثر مما هو تعبير عن مرحلة واحدة في تجربة، دون أن يتعارض ذلك مع حقيقة وجود لوحات جميلة ومتقنة فيه. الجانب الفلسفي واضح الحضور في بعض الأعمال أكثر من الجانب التشكيلي. رغم أن بحث الفنان عن علاقة الدائرة بجوانب الحياة يقوم على حالة تشكيلية. أثق أن الفنان فداء منصور يمتلك إمكانية حقيقية لإنضاج تجربته والارتقاء بها، بحكم امتلاكه لأدوات أساسية وهامة وفاعلة في هذا المنحى، في مقدّمتها قوة الخط وسلامة التكوين وإدراك آلية خلق مناخ لوني متناغم ومتناسب مع موضوع اللوحة. وإلى ذلك قدرته كمصور على تلخيص الأشكال. أعتقد أنه من خلال بحثه النظري والعملي، وثقافته الفنية التي تستخلص التجارب الفنية المفصلية، سينحاز إلى ما هو أميز في مكامن مقدرته. وإلى ما هو أقرب إلى مزاجه الشخصي. وأنتظر معرضه التالي بمودة وأمنيات جميلة.
كان ذلك النص بداية أحاديث طويلة بيننا استمرت على امتداد السنوات الثلاث التالية، وكانت شاهداً على الوضع النفسي الصعب الذي يُثقل عليه، بين تلهفه للوصول سريعاً إلى النجاح والشهرة، وبين إحساسه العميق بأن هناك من يناصبه العداء في الوسطين التشكيلي والإعلامي، ويسعى لإحباطه. بعد أقل من شهرين على معرضه الأول أخبرني أن أحداً ما دفع فناناً كبيراً لسرقة أسلوبه. وطلب نصيحتي فأجبته: أنصحك أن تتجنب المشاكل، وتتابع تجربتك. وبعد وقت قصير التقى الفنان الكبير بجلسة مودة أنهى فيها كلّ حديث عدائي معه وعنه. لكن إحساسه بأن هناك من يعمل ضده لم ينته فبعد سجال طويل في شهر نيسان (أبريل) العام الماضي سألته: هل تستطيع أن تعطيني اسم أي فنان يراك خصماً أو عدواً؟ وكان جوابه حديثاً طويلاً عن فنانين يجهلهم يدفعون للنقاد كي لا يكتبوا عنه وعن تجربته، ولكنّه غير متأكد ولا يستطيع اتهام أحد دون دليل. فقلت له: ومع ذلك أنت مقتنع أن هناك فنانين يدفعون من أموالهم من أجل محاربتك. وأردفت: تحرر من هذه الأوهام التي لن تؤذي أحداً سواك. فكتب: أحاول جاهداً. لكن يبدو أن الإحساس الراسخ بالظلم في أعماقه حال دون نجاح محاولته.
وفي أواخر شهر آب (أغسطس) الماضي سجلت معه حديثاً عن سيرة حياته ضمن مشروع مؤسسة (وثيقة وطن) لتوثيق الفن التشكيلي السوري. بحضور زوجته التي وقفت إلى جانبه دوماً. هالني كم الحزن المتراكم في قلبه منذ طفولته الأولى، وخاصة قسوة معلمة المدرسة التي عاقبته و أتهمته بالكذب حين قرأ لها شعراً جميلاً نظمه في ذلك العمر المبكر، فقطع الطريق الطويل الشاق إلى بيته، من مدرسة القرية المجاورة وهو يبكي بحرقة. من شدة ما تركت هذه الحادثة في نفسه من ألم، بدا وكأنه يروي واقعة حدثت بالأمس القريب.
ستة معارض فردية في ثلاث سنوات، ومشاركات عديدة في ملتقيات ومعارض جماعية، وكثير من اللقاءات الصحفية والتلفزيونية، وعدد كبير غير محدد من اللوحات الفنية. هل كان فداء يستعجل الرحيل؟
يضاعف الأسى في رحيله الباكر أن أعماله الأخيرة أظهرت تطوراً هاماً لتجربته في اتجاه قوة التعبير اللوني وثراه، بحيث بدا وكأن حيوية الأعوام الثلاثة كرّست حضوره كفنان مجدد … لكن الحياة لم تكن منصفة معه.
إضاءات – سعد القاسم