الثورة – فؤاد الوادي:
دخلت سوريا مرحلة جديدة من التعاون والانفتاح على دول العالم، بعد عزلة فرضتها سياسات ومشاريع النظام المخلوع لسنوات طويلة، في مشهد أثار حفيظة وقلق الكيان الإسرائيلي، الذي عبر عن هذا الرفض بطريقته الهمجية المعهودة من خلال الاعتداءات والهجمات والتوغلات المتواصلة داخل الأراضي السورية.
سوريا المستقرة تخيف إسرائيل
إسرائيل تجد نفسها اليوم في مأزق كبير وسط نجاحات وإنجازات وجهود الدولة السورية المستمرة، سواء أكانت على الصعيد الداخلي، أم كانت على الصعيد الخارجي. فالاستراتيجية الإسرائيلية ترتكز على إبقاء المنطقة والدول المحيطة بها في حالة توتر وفوضى دائمة، حتى يتسنى لها مواصلة أهدافها ومشاريعها بحرية مطلقة وباستدامة طويلة الأمد. لذلك، هي تبدو في أشرس حالاتها عندما ترى دول الجوار مستقرة وآمنة، لاسيما سوريا التي تشكل لها عقدة المنشار، خصوصًا إذا ارتبط ذلك بالدور والتأثير التاريخي والمستقبلي الفاعل لدمشق.
الباحث السياسي المحامي، جواز خرزم، أكد في تصريح خاص لـ”الثورة”، أن إسرائيل كدولة احتلال، تخشى من تعاظم قوة الدولة السورية، والذي لا يمكن أن يحصل إلا إذا كان هناك استقرار حقيقي ودائم، وهو ما تحاربه إسرائيل وتجهد لعرقلة مسيرته، وبمختلف الوسائل والطرق والسياسات، بدءًا من اعتداءاتها وتوغلاتها المتواصلة داخل الأراضي السورية، وإقدامها على الاعتداء على المدنيين السوريين في المناطق التي تتوغل فيها، ومرورًا بدعمها لمجموعات خارجة عن القانون، لتحريضها على التمرد والانقسام والانفصال وإثارة النزاعات الطائفية والفوضى وبث الخوف في نفوس المواطنين.
ويعتبر الاستقرار بالنسبة لدمشق ركيزة أساسية لإعادة بناء الدولة الجديدة، وهذا بدوره يتطلب إعادة صياغة لعلاقاتها مع دول الجوار من جهة، ومع دول العالم من جهة أخرى، وهو ما بدأت به منذ الأسابيع الأولى التي أعقبت التحرير. حيث أعلنت، وعلى لسان قيادتها السياسية، والتي تمثلت في وقت لاحق بشخص الرئيس الشرع، أنها تسعى إلى الاستقرار والنهوض وإعادة الإعمار، بعيدًا عن النزاعات والاحترابات الخارجية، لتضع بهذه المقاربة الجديدة دول العالم جميعها، أمام مسؤولياتها في دعم سوريا مستقرة وآمنة، انطلاقًا من أن سوريا المستقرة والآمنة، تشكل استقرارًا للمنطقة برمتها.
وفي هذا السياق، يتابع خرزم، حديثه بالقول: إن “الرؤية السورية الجديدة في محاكاتها للمرحلة الحالية والمستقبلية، تتقاطع مع مواقف ورؤى معظم دول العالم، في الحفاظ على وحدة وسيادة واستقرار سوريا، لأن العالم بات يدرك جيدًا حقيقة أن استقرار سوريا هو من استقرار المنطقة، والعكس صحيح، مع ملاحظة اختلاف الرأي الإسرائيلي في هذا الجانب، لارتباطه بطموحات ومشاريع إسرائيل التوسعية في المنطقة. تلك المشاريع التي لا يمكن لدولة بمفردها أن تلجمها، إلا انتهت الأمور إلى حرب إقليمية أو عالمية”.
مقاربات سياسية خلطت الأوراق
هذا الأمر، ينقلنا إلى الحديث عن أحد الأسباب الحقيقية التي دعت دمشق إلى المسارعة بالانفتاح على العالم، لاسيما، الانفتاح على الولايات المتحدة الأميركية، التي ترتبط بعلاقات وثيقة مع إسرائيل، والتي تبدو الطرف الأكثر تأثيرًا على السياسات الإسرائيلية الخارجية.
على هذا النحو، انطلقت الدبلوماسية السورية في إعادة صياغة علاقاتها الدولية على أساس مصالحها وثوابتها والتزاماتها الوطنية بالدرجة الأولى، لا لتمسك العصا من المنتصف، بل لتمسك العصا، بما يلبي طموحات ومصالح الشعب السوري الذي عانى وضحى وبذل الغالي والنفيس، لاستعادة وطنه المسلوب لعقود من أشخاص وأطراف ودول.
وكان الرئيس الشرع قد زار الولايات المتحدة في الحادي عشر من الشهر الجاري وعقد جلسة مباحثات رسمية في البيت الأبيض مع الرئيس الأميركي دونالد ترامب، تناولت تعزيز العلاقات السورية – الأميركية وتطوير التعاون في مختلف المجالات، إضافة إلى مناقشة عدد من القضايا الإقليمية والدولية ذات الاهتمام المشترك.
وبحسب محللين سياسيين، فإن الزيارة التي حظيت باهتمام إعلامي وسياسي أميركي وغربي واسع، شكلت محطة مفصلية في العلاقات السورية-الأميركية، لأنها نقلت دمشق من موقع التهديد، إلى موقع الشراكة الاستراتيجية مع واشنطن، وهو الأمر الذي أعاد ترتيب وخلط أوراق المنطقة من جهة، ووضع الإسرائيلي في خانة المراجعة الكلية لسياساته واعتداءاته على سوريا.
لعبة التوازنات والتشبيك
الجهود الكبيرة التي بذلتها سوريا الجديدة لتعزيز العلاقات مع الولايات المتحدة، لم تكن في حقيقة الأمر مخصصة لهذا الجانب رغم أهميته، بل كانت جزءًا وامتدادًا لجهود دبلوماسية وسياسية لإعادة تشبيك سوريا مع العالم، بعد سنوات من العزلة والقطيعة والعقوبات، ضمن رؤية استراتيجية متوازنة تسعى للانفتاح على العالم مع الحفاظ على لعبة التوازنات التي يمكن من خلالها إنتاج واجتراح حلول لكل الملفات العالقة، التي لا يمكن لطرف لوحده أن يفكك عقدها، دون المرور بآلية إنتاج الحلول على طاولة المفاوضات والمزايدات والمصالح المتبادلة للدول.
لقد سعت دمشق إلى إبقاء قنوات التواصل مع جميع الأطراف، بما فيها الأطراف التي شاركت مع النظام المخلوع في قتل السوريين، وذلك حفاظًا على مصالحها الوطنية وتجنبًا لدفع الأمور نحو الهاوية. ولعل الزيارات واللقاءات التي قام بها الرئيس الشرع والوزير الشيباني خلال المرحلة الماضية تعكس وتؤكد هذا التوجه السوري نحو الانفتاح على جميع اللاعبين المؤثرين في قضايا وملفات المنطقة، بما يضمن ويدعم جهود إعادة الإعمار والنهوض والتعافي.
للدلالة والتأكيد على ما سبق، يمكننا التذكير بحديث الرئيس الشرع لصحيفة “واشنطن بوست” في الثاني عشر من الشهر الجاري، والذي أوضح فيه رؤية سوريا لعلاقاتها مع الولايات المتحدة ودول العالم، ومن بينها روسيا وإسرائيل.
قال الرئيس الشرع للصحيفة: إن “استقرار سوريا سيؤثر على المنطقة بأسرها، وأن سوريا دخلت في حرب مع إسرائيل قبل 50 عاماً، ثم في عام 1974 تم توقيع اتفاقية فك الاشتباك بين الطرفين. ومنذ سقوط نظام بشار الأسد، بدأت إسرائيل بانتهاك الاتفاقية وطردت بعثة الأمم المتحدة لحفظ السلام، واحتلت أراضٍ جديدة، وشنت أكثر من ألف غارة جوية في سوريا منذ الثامن من كانون الأول/ديسمبر، شملت قصف القصر الرئاسي ووزارة الدفاع، لكن لأننا نريد إعادة إعمار سوريا، لم نرد على هذه الاعتداءات”.
وأكد الرئيس الشرع أن اعتداءات إسرائيل لا تنبع من مخاوفها الأمنية بل من طموحاتها التوسعية، وأضاف: “لطالما ادعت إسرائيل أن لديها مخاوف بشأن سوريا لأنها تخشى التهديدات التي تُمثلها الميليشيات الإيرانية وحزب الله اللبناني، ونحن من طردنا تلك القوات من سوريا”.
التعافي كمدخل لبناء الدولة
وأوضح الرئيس الشرع، أن سوريا تنخرط في مفاوضات مع إسرائيل، وقطعت شوطًا طويلًا في طريق التوصل إلى اتفاق أمني، لكن للتوصل إلى اتفاق نهائي، يجب على إسرائيل الانسحاب من الأراضي التي احتلتها في الثامن من شهر كانون الأول/ديسمبر.
وأضاف الرئيس الشرع: “الولايات المتحدة معنا في هذه المفاوضات، والعديد من الأطراف الدولية تدعم وجهة نظرنا في هذا الصدد. اليوم وجدنا أن الرئيس ترامب يدعم وجهة نظرنا أيضًا، وسيدفع بأسرع وقت ممكن للتوصل إلى حل لهذه المسألة”.
وحول العلاقات مع روسيا قال الشرع: “خضنا حربًا ضد روسيا لعشر سنوات، وكانت حربًا قاسية وصعبة -أعلنوا أنهم اغتالوني عدة مرات- نحن بحاجة إلى روسيا لأنها عضو دائم في مجلس الأمن. نحتاج إلى تصويتهم ليكونوا إلى جانبنا في بعض القضايا، ولدينا مصالح استراتيجية معهم. لا نريد أن ندفع روسيا إلى خيارات بديلة أو أخرى في التعامل مع سوريا”.
انطلاقًا من كل ما سبق، لا تزال الدولة السورية تجهد لوضع مسار التعافي على سكته الصحيحة، كونه المدخل الوحيد لبناء الدولة ونهوضها، لاسيما وأنها أثبتت أنها قادرة على اجتراح فرص نهوضها من تحت الركام والرماد، واستطاعت خلال أشهر معدودة أن تقدم رؤية مستقبلية لتعاونها وانفتاحها على العالم، تقوم على ترسيخ شراكات استراتيجية في كافة المجالات، بما ينعكس على نهضتها وتعافيها داخليًا، وحضورها كقوة فاعلة على الساحة العربية والدولية، وبما يعيد لها دورها ومكانتها بين الدول.