رغم كل الحقائق والأدلة والقرائن المثبتة والمؤكدة والمتوفرة لدى المنظمات الدولية بشأن تخلص سورية من مختلف أنواع الأسلحة الكيماوية أو الغازات المحرمة دولياً وخاصة منظمة حظر الأسلحة الكيماوية التي أشرفت بنفسها عبر لجان متخصصة عام 2014 على إغلاق هذا الملف نهائياً، وصدور القرار الأممي رقم 2118 الذي حسم هذه المسألة وقطع الطريق أمام أي استثمار سياسي من أي جهة أو أي توظيف رخيص في هذا الشأن، لاتزال بعض الدول والجهات والجماعات الإرهابية المرتبطة بها في سورية تجهد نفسها من أجل إعادة هذا الملف إلى التداول كلما وجدت نفسها بحاجة لذلك وكلما شعرت باقتراب نهاية أدواتها الإرهابية وانتهاء مشروعهم العدمي في سورية.
فمنذ مسرحية الكيماوي المفبركة في دوما العام الماضي إبان تحرير غوطة دمشق الشرقية ـ وقبلها العديد من المسرحيات المفبركة المشابهة التي كانت سببا لعدوان أميركي وغربي مبيت على سورية تحت عناوين زائفة ـ لم تتوقف هذه الجهات عن استدراج عروض «الكيماوي» في رسائل موجهة لمن تبقى من جماعات إرهابية تكفيرية في محافظة إدلب ومناطق أخرى، لحثّهم على إعادة المحاولة مرة تلو المرة بهدف عرقلة سعي الدولة السورية لتحرير أرضها من سيطرة هذه الجماعات الارهابية التخريبية المصنفة دولياً وإبقاء الجرح السوري نازفاً، في الوقت الذي قدمت فيها الدولتان الحليفتان سورية وروسيا لمجلس الأمن وباقي المؤسسات الدولية ذات الشأن معلومات موثقة وتقارير عن قيام هذه الجماعات بالتحضير لاستفزازات كيماوية انطلاقا من معاقلها في محافظة إدلب، حيث يستمر توريد هذه المواد السامة والمحرمة عبر تركيا من أجل استخدامها في اللحظة والتوقيت المناسب.
ورغم كل الأحداث والتطورات التي أثبتت مصداقية سورية في هذا الملف وغيره من الملفات وظهور الكثير من الدلائل والمعلومات التي تؤكد امتلاك الإرهابيين لهذه الأسلحة المحرمة واستخدامهم لها في العديد من الجبهات والظروف، إلا أن الجانب الأميركي الداعم للإرهاب في سورية ـ ومعه بعض الدول القزمة ـ لا ينظر إلى هذه الحقائق والمعلومات إلا بعين عوراء تخدم أجنداته ومصالحه فقط، بغض النظر عن التداعيات الكارثية والمخاطر التي يمكن أن تجرها استفزازات من هذا النوع على السلم والأمن الدوليين، وهذا ما يؤكد أن هذه الذريعة الرخيصة المزعومة هي آخر ما تبقى للأميركيين وحلفائهم، من أجل تدخل طويل الأمد في الشأن السوري، وممارسة أساليب العربدة والبلطجة تحت عناوين الحرص الكاذب على حياة المدنيين والتمسك المزعوم بالقانون الدولي، ما يطرح الكثير من الأسئلة والاستفسارات حول الجدوى من الانضمام لمنظمة حظر الأسلحة الكيماوية في ظل هذا الاستهتار الأميركي والغربي ببيانات وأرقام هذه المنظمة وضربها بعرض الحائط عند كل مفترق طرق.
ويتساءل الكثيرون أين كان كل هذا الحرص الأميركي والغربي على حياة المدنيين في سورية حينما كان تحالفهم المزعوم لمحاربة داعش يشن غاراته العدوانية والعشوائية على المناطق الآهلة بالسكان في منطقة الجزيرة السورية بحجة محاربة داعش ما أدى لارتقاء آلاف المدنيين شهداء وتم تدمير العديد من البلدات والقرى واستخدمت الأسلحة المحرمة دولياً ومنها الفوسفور الأبيض والكثير من الأسلحة الفتاكة عالية التدمير، حيث لاتزال مدينة الرقة التي تجاوزت نسبة الدمار فيها عتبة التسعين بالمئة شاهداً حياً على أكاذيبهم وافتراءاتهم بشأن حماية المدنيين والدفاع عن حقوق الانسان، إذ تشير تقارير غربية إلى وجود آلاف الضحايا الأبرياء تحت ركام منازلهم المدمرة في الرقة رغم مرور قرابة عامين على خروج تنظيم داعش الإرهابي منها.
واليوم وفي توقيت حاسم وحساس من تقدم الجيش العربي السوري على خطوط مواجهة الإرهابيين التكفيريين في ما تبقى من إدلب وأرياف حماة واللاذقية وحلب من أجل استكمال تحريرها، وإلحاقه أفدح الخسائر البشرية بإرهابيي جبهة النصرة وآلاف المرتزقة الآجانب الذين يعملون بإمرتهم، عادت همروجة الكيماوي الفارغة للتداول من جديد، وهذه المرة في بلدة كباني بريف اللاذقية الشمالي، حيث تبدو الغاية واضحة وفاقعة والهدف مكشوف ومفضوح وهو اتهام الجيش العربي السوري باستخدام الأسلحة المحرمة دولياً ومن ثم استدعاء عدوان أميركي جديد يخلط الأوراق ويساهم بإطالة عمر الارهاب في سورية عبر إنقاذ ما تبقى من إرهابيين في هذه المناطق وإعطائهم أملا جديداً بالحياة والبقاء لأطول فترة ممكنة، وبالتالي عرقلة تقدم الجيش باتجاه محافظة إدلب التي لا تزال حتى اللحظة بنظر العالم أكبر وآخر معاقل الإرهاب في سورية، والحيلولة دون إلحاقها بباقي المناطق السورية المحررة استعداداً لإغلاق ملف الحرب الارهابية والتفرغ لانجاز الحل السياسي الذي يحقق مصالح وطموحات السوريين.
محاولة الجانب الأميركي ومن معه من مشغلي الإرهابيين إشغال الرأي العام الدولي بهمروجة كيماوية جديدة ـ ولا نستبعد انعقاد مجلس الأمن مجددا تحت هذا العنوان ـ هدفه ضرب مسار آستنة وسوتشي التفاوضيين بين الدول الضامنة ـ كون النظام التركي متورط حتى أذنيه ـ ورفع سوية الضغوط السياسية على الدولة السورية، وهذا بطبيعة الحال يؤجل أو يعرقل استعدادات الجيش العربي السوري للتوجه شمالاً وشرقاً من أجل استعادة سيادة الدولة السورية على الجزيرة السورية الغنية بالنفط والثروات الزراعية من أيدي عملاء ومرتزقة واشنطن في قسد، ويمنح مخططات اردوغان لإقامة «مناطق آمنة» في الشمال السوري على مقاس أطماعه فرصة جديدة لم يستطع الأميركي منحه إياها، غير أن الاحتجاجات الشعبية وأعمال المقاومة التي انطلقت ضد الوجود الأميركي والقسدي في الجزيرة السورية، سيخلق معادلة جديدة ستكون عبئاً على الوجود الأميركي غير الشرعي في هذه المنطقة وعلى مشاريع النظام التركي الأمنية والتوسعية.
قد لا نبالغ ولا نبتعد عن الحقيقة إذا قلنا ـ طبعاً بالنظر لترابط ملفات المنطقة ـ أن الأميركي الذي صعّد لهجته في الخليج ضد إيران ولم يقطف من تصعيده السياسي والعسكري ضدها سوى الخيبة والخذلان والفشل يجد نفسه مضطراً لتنفيس غضبه واحتقانه في مكان آخر، وهذا ما يفسر استعجال الجماعات الارهابية في توفير الذريعة التي يبحث عنها الأميركيون، ولكن ـ وقياساً لما جرى خلال الأعوام الثمانية الماضية من الحرب على سورية ـ لن تستطيع مثل هذه الأكاذيب والأضاليل ومن يستثمر فيها من دول وجهات أن تفت في عضد سورية وتمنعها من تطهير أرضها من رجس الارهاب مهما كانت التحديات، فليخرجوا كل ما في جعبتهم من مسرحيات وفبركات وأضاليل، لأنهم مهما ارتكبوا من موبقات واختلقوا من ذرائع لن يعيدوا عقارب الساعة إلى الوراء وستلفظهم إدلب وباقي المناطق كما لفظتهم معظم الجغرافيا السورية.
عبد الحليم سعود
التاريخ: الأربعاء 22-5-2019
الرقم: 16983