«الشعر.. الحب.. الحياة»

رُبَّما تكونُ أقصى نِعَمِ القدير على الإنسان، أنَّهُ بذاكرة.. وبالوقتِ نفسِهِ قد تكونُ أقصى عذاباتِ هذا الإنسان وآلامِهِ، أنَّه بها، ونحن إنْ لم نُدَوِّنْ ذاكراتِنا، مع أوَّلِ أُفُولٍ لفتيلِ الحياة في قنديلِ العُمر، نكونُ قد أعلنَّا موتَنا صراحَةً وإلى الأبد.
أقفُ على شرفةِ الذِّكرى.. يُبَاغتُني الحنينُ حيثُ نشأنا. ربَّما من حتميَّات القَدَر أن نعودَ سِيرَتَنا الأُولى، ولهذا، ولو في كَفَنٍ من ذكرى، يعودُ المَرْءُ لتُربتِهِ، مهما غرَّدَ بعيداً عنها، أو تغرَّبَ عن وطنِهِ، ومرابِعِ طفولته، لكنَّني عدْتُ إليها مُبَكِّراً يا أخي، بل رُبَّما لم أخرُجْ منها لأعود إليها، لم تسعِفْنِي الحياة، ولم أستَطِعْ حتى الآنَ انتزاعَ أشواكِ الألَمِ من نفسي، ذلكَ الألمُ العَصِيَّ على الاحتمال، حين نشعُرُ بفداحَةِ فجوة الزَّمَنِ بين ماكُنَّا نحلُمُ به يقيناً، وبين ماصرنا نَجْهَدُ لنعتبرَهُ ولو حلماً..
أقولُ هذا، وأتذكَّرُ أيامَ طفولتنا الأولى، حيثُ كُنْتَ تُجلِسُني في حُضنِكَ لأرى «الأُمَيَّة»، هكذا كنَّا نسمِّي «النَّافُورة»، أكتشفُ لاحقاً أنَّها «ساحةُ الأُمَوِيِّين»، وتقولُ لي حادباً حانياً: سأُرِيكِ «الأُمَيَّة» عندما نقتربُ منها ونحنُ في الحافلة، كانَ هذا فائضَ حنينٍ بِوَعْيٍ مُبَكِّرٍ كنتَ تختَزِنُهُ من شَبيهِكَ الأُنثَوِيِّ الكامِنِ في أعماقِ جيناتِكَ، أعني الحنَانَ العظيم.
ها أنتَ ذا تشُقُّ طريقَ الحياةِ الأوعَرَ، راشداً قُبَيلَ الأوانْ، مُقَلِّماً أظافِرَ وُحُوشِها، مُدَجِّناً ضَواريها، مُشَذِّباً قسوَتَها بالعِلْمِ والأمَلِ والإحسان، لتُعلِنَ مَقُولَتَكَ التي تُودِعُها سِراً فيمَنْ بعدَكَ.. الحياةُ قاسيةٌ والحربُ حياةٌ أقسى، والحبُّ بينهُما مَطْهَرُنا الرُّوحيُّ، ولرُبَّما كان قَدَرُنا أن نحياها، كُلٌّ من حيثُ بدأ عمرَهُ منذُ ابتدَأَتْ، وطَرَأَتْ، وواكبها كل من موقعه..
طلعَ الصَّباحُ بشروقِهِ المُتكَرِّرِ الصِّدق.. وأنا بين الحنين والذِّكرى، على مرمَى قَدَرٍ من عَيْنَي حبيبي.. كمْ أشتاقُهُ الآن.. تماماً كما أشتاقُ الشِّعر.. – بي شهوةٌ للكتابة، أبُثُّها الورقَ، وأُودِعُها الكلماتِ، وشِغافي ممتلِئةٌ نشوةً بهذهِ السَّكينة الطُّمَأنينة، وأعماقي تدعو أن تستمِرَّ بلا نهاية، هو وقتُ الفجرِ السَّحَرِ، وقتُ الكُحليِّ الأشَدِّ حلكةً، وقتٌ هو أكثر الأوقاتِ روعةً وسحراً وغَرَائِبِيَّةً، سكونٌ مُطبِقٌ، وأنا وحدي متوحدةً مع الكَونِ، مع القَديرِ، مع الخالقِ داخلي، مع من أحبُّ.
من جميلِ ما قرأتُ، وصيَّةُ مُعَلِّمِ الشُّعراء، «أبي تمَّام»، لتلميذه «البُحتريّ»، عندما قَصَدَهُ يرُومُ الشِّعرَ: «يا أبا عُبادة؛ تخيَّر الأوقاتَ وأنت قليلُ الهُمومِ، صِفْرٌ من الغُمومِ, واعْلَمْ أنَّ العادةَ جَرَتْ في الأوقاتِ أن يقصدَ الإنسانُ لتأليفِ شَيْءٍ أو حِفْظِه في وَقْتِ السَّحَرِ؛ وذلكَ أنَّ النَّفْسَ قَدْ أَخَذَتْ حَظَّهَا مِنَ الرَّاحةِ، وقِسْطَهَا مِنَ النَّوْمِ. وإنْ أردتَّ التَّشْبيبَ؛ فاجْعَلِ اللَّفْظَ رَشيقًا، والمعنَى رَقيقًا، وأَكْثِرْ فيه مِن بَيانِ الصَّبابةِ، وتوجُّعِ الكآبَةِ، وقَلَقِ الأَشْوَاقِ، ولَوْعَةِ الفِراقِ. فإذا أَخَذْتَ في مَديحِ سيِّدٍ ذي أيادٍ؛ فأشْهِرْ مَناقِبَهُ، وأظْهِرْ مناسِبَه، وأَبِنْ مَعالِمَهُ، وشرِّفْ مقامَهُ, ونَضِّدِ المعانيَ، واحْذَرِ المجهولَ مِنْها, وإيَّاكَ أن تَشينَ شِعْرَكَ بالألفاظِ الرَّدِيئةِ، ولْتَكُنْ كأنَّكَ خيَّاطٌ يقطعُ الثِّيابَ علَى مَقاديرِ الأجسادِظ, وإذا عارَضَكَ الضَّجَرُ؛ فأَرِحْ نَفْسَكَ، ولا تعملْ شِعْرَكَ إلاَّ وأنتَ فارغُ القَلْبِ، واجْعَلْ شَهْوَتَكَ لقولِ الشِّعْرِ الذَّريعةَ إلَى حُسْنِ نَظْمِهِ؛ فإنَّ الشَّهْوَةَ نِعْمَ المُعِينُ. وجُمْلَةُ الحالِ أَن تعتبرَ شِعْرَكَ بِما سَلَفَ مِن شِعْرِ الماضينَ، فما اسْتَحْسَنَ العُلَماءُ فاقْصِدْهُ، وما تَرَكُوهُ فاجْتَنِبْهُ؛ تَرْشُدْ إن شاءَ اللهُ».
كأنَّ «أبا تمَّام» حاضرٌ بيننا، وما أحوجَنا لاستحضارِهِ، ولو أنَّه كذلك، إذاً لامَّحى أغلبُ مايُكْتَبُ على أنَّه شعر، ولاندَثَرَ معظمُ من يكتبُون يقيناً، وهم مدَّعون.. الشِّعرُ حافظةُ الرُّوح والقَلْبِ، وذاكرةُ الشِّغافِ آنَ تُلامِسُها لطائِفُ الحُبِّ الحياة، وعاءُ المَعْنى ومعنى المعنى، الشِّعرُ كائنٌ أسطوريٌّ لا كينونة له سِوى أنَّه الشِّعر.. يهزُّك من تلابيبِ روحك، ويرفعُكَ إلى أراجيحِ التَّحليق، حيثُ سَرُرُ اللَّذَّة الأبهى، وسدرة منتهى العشق.. الشِّعر الحُبُّ الحياة: الثالوثٌ المُقَدَّس، في حضرة النُّون..

 

ليندا ابراهيم
التاريخ: الجمعة 31-5-2019
الرقم: 16991

 

 

 

آخر الأخبار
"لأجل دمشق نتحاور".. المشاركون: الاستمرار بمصور "ايكو شار" يفقد دمشق حيويتها واستدامتها 10 أيام لتأهيل قوس باب شرقي في دمشق القديمة قبل الأعياد غياب البيانات يهدد مستقبل المشاريع الصغيرة في سورية للمرة الأولى.. الدين الحكومي الأمريكي يصل إلى مستوى قياسي جديد إعلام العدو: نتنياهو مسؤول عن إحباط اتفاقات تبادل الأسرى إطار جامع تكفله الإستراتيجية الوطنية لدعم وتنمية المشاريع "متناهية الصِغَر والصغيرة" طلبتنا العائدون من لبنان يناشدون التربية لحل مشكلتهم مع موقع الوزارة الإلكتروني عناوين الصحف العالمية 24/11/2024 رئاسة مجلس الوزراء توافق على عدد من توصيات اللجنة الاقتصادية لمشاريع بعدد من ‏القطاعات الوزير صباغ يلتقي بيدرسون مؤسسات التمويل الأصغر في دائرة الضوء ومقترح لإحداث صندوق وطني لتمويلها في مناقشة قانون حماية المستهلك.. "تجارة حلب": عقوبة السجن غير مقبولة في المخالفات الخفيفة في خامس جلسات "لأجل دمشق نتحاور".. محافظ دمشق: لولا قصور مخطط "ايكوشار" لما ظهرت ١٩ منطقة مخالفات الرئيس الأسد يتقبل أوراق اعتماد سفير جنوب إفريقيا لدى سورية السفير الضحاك: عجز مجلس الأمن يشجع “إسرائيل” على مواصلة اعتداءاتها الوحشية على دول المنطقة وشعوبها نيبينزيا: إحباط واشنطن وقف الحرب في غزة يجعلها مسؤولة عن مقتل الأبرياء 66 شهيداً وأكثر من مئة مصاب بمجزرة جديدة للاحتلال في جباليا استشهاد شاب برصاص الاحتلال في نابلس معبر جديدة يابوس لا يزال متوقفاً.. و وزارة الاقتصاد تفوض الجمارك بتعديل جمرك التخليص السبت القادم… ورشة عمل حول واقع سوق التمويل للمشروعات متناهية الصغر والصغيرة وآفاق تطويرها