يقول الجرجاني: «إن الشعر علمٌ من علوم العرب يشترك فيه الطبعُ والرّواية والذكاء» وقال عنه المظفر بن الفضل: « أما الشعرُ فإنه ديوان الأدب، وفخر العرب، وبه تُضرَب الأمثال، ويفتَخِر الرّجالُ على الرجال، وهو قيدُ المناقبِ ونظامُ المحاسنِ، ولولاهُ لضاعَتْ جواهرُ الحِكَم، وانتثرت نجومُ الشّرَفِ، وتهدّمتْ مباني الفضل، وأقوَتْ مرابِعُ المجدِ، وانطمسَتْ أعلامُ الكرمِ، ودرَستْ آثارُ النِّعَم. شرَفُه مخلّدٌ، وسُؤدُدُه مجدّدٌ، تَفْنى العصورُ وذِكرُه باقٍ، وتهوي الجبالُ وفخرُه الى السماء راقٍ، ليس لما أثْبَتَه ماحٍ، ولا لمَن أعذَرَه لاحٍ».
فإذا كان هذا بعض من تعريف الشعر حسب رأي السابقين، فمن هو الشاعر.. يقول نيتشه: «وحده الشاعر من يحمل الفوضى في داخله، يستطيع أن يضيف إلى السماء نجماً، النجم الذي ينقص هذه السماء…», أما رامبو فيقول: «الشاعر هو العاجز العظيم، المدفوع بعلامة الفشل في التكيف، المحكوم بالانفعال الساكن، والغليان الهادئ…», وتحضرني حادثة عشية مقتل أمير شعراء روسيا «بوشكين» في 26 يناير عام 1837 – حيث المبارزة الشهيرة- إذ كتب أمير الشعراء الرُّوس الكساندر بوشكين رسالة الى الكونت «كارل تول» يقول فيها: «العبقريُّ يكتشف ُالحقيقة في لمحةٍ واحدة، والحقيقةُ أكبرُ من القيصر.. ولهذا السبب لا يمكن للديكتاتوريين أن يسامحوا الشُّعراءَ على تفوُّقهم الأخلاقي، وإدراكهم الثمين لما هو صائب, إن الكلَّ مهتمٌّ بالتحقق من نفسه من خلال التجربة، وأفراد السلطة فرحون بخرافة معصوميَّتهم، وهم بكل الوسائل يبتعدون عن الحقيقة, السياسة لا تقول لي شيئاً، وأنا لا أحب الذين لا يهتمون بالحقيقة».
ترى من هو الشاعر إذاً.. إنه المتَّهَمُ بالنُّبُوَّة والنُّبُوءَةِ، والاستشرافِ والتَّحذير، والتوعية وإنارة الطريق، وفتح الآفاق وملامسة المشاعرِ، وتغيير العالم، والتفوُّق والاستعلاء، والنُّبلِ والحساسيَّة المفرطة حد أن يُعابَ عليه ذلك.. وهو القائدُ والزَّعيمُ والأميرُ ولسانُ القبيلةِ ووزيرُ إعلامها ومخلد أحداثها، مالئُ الدُّنيا وشاغلُ النَّاس، ولسانُ حال الشَّعب والعامَّة والغوغاء والقطيع وضميرُ الأمَّة ولسانُ السُّلطان والنَّاطقُ باسم قومه.. هوُ المتَّهَمُ بحبِّ الحُكمِ والتَّقَرُّبِ للسُّلطة بالمدحِ وتعريتها بالذَّمِّ.. وقد يكون الأمرين معاً في شاعرٍ واحد.. هو الذي يخافُهُ الملوك والسَّلاطين، ويتقرَّبُون به إلى خصومهم وشعوبهم عامَّةِ الشعب، وهو الذي يُخْشَى ضميرُهُ الحُرُّ، فيسعى ويدأبُ لوضعه تحت بطانته، وطوعَ نهجِهِ وسلطانِهِ، فإن أبى كبرياؤه عاداه وخاصمه وقاتَلَهُ ونكَّل به، وقد يقتلُهُ ويجلده ويصلبه وينفيه ويهمِّشُهُ ويتجاهله ويشرِّدُهُ..
والشَّاعرُ لسانُ حال الحُبِّ والمحبِّينَ والعُشَّاق والمعشوقين.. هو لسانُ حال العصافيرِ، ولهفةِ الهائمين الحالمين، ولثغةُ فراشاتِ أرواحِهِم وهي تدرُجُ أولى خطواتها في دروب الحُبِّ والغبطة.. هو الحكيمُ والبعيدُ النَّظرِ، والحادي في المُلِمَّات ومهوى قلوبِ العاشقين ومحطُّ أنظار العاشقات.. هو المستشارُ لكلِّ خطبِ حُبٍّ جللٍ، فيداويه بقصيدةٍ تُبَلسِمُ جراحَ المتحابِّين من الهجر والخصام والنَّوى والعذل والوشي والنَّميمة والوقيعة.. وهو الذي يحيلُ الصَّحارى إلى ممالك من هُيَامٍ ومطارحَ للقاءِ ومواضعَ للذِّكرى ومَراثٍ للحنين.. ويجعلُ من «خِبَاءٍ» ركناً من حديقة أو قصراً منيفاً من غرام.. والشَّاعرُ صيادُ قلوبِ العُشَّاق، وسارقُ جيوبِ الخلفاءِ والسَّلاطين والملوك والأمراء.. يهجوهم فيطلبون التقرُّبَ إليه ومنه.. يمدحُهُم فيرفعونَهُ إلى مراتبَ لا يدانيها الوزراءُ والمستشارون والخلَّانُ والأصفياء والإخوان. والشاعرُ هو ذلك الغنيُّ المفلسُ الذي يراهُ كلُّ من حوله بأنَّه أغنى الأغنياء وأذكى النَّاس وأجمل المخلوقات وأسعد البشر، لكنما هو في طيَّات فؤاده، وحنايا روحه، أتعسُ الناس وأكثرُ المعذَّبين بالحُبِّ والوطنِ والضَّمير..
ليندا ابراهيم
التاريخ: الجمعة 6-9-2019
الرقم: 17067