أسلمتُ خافقي لليل، وللقلم عنان روحي، وجعلت أريجه وجهتي.. وعطره مجد قلبي.. يسبحون بآلائه آناء الحب.. وأطراف الجمال.. شهياً كعادته، لاينفكُّ يراود روحي عنها، بينما هي في أعماق شغافه ومدارات شغفه.. أتراه يغار عليها مني.. أم إنَّه يغار على نفسه مني.. أم تراهما هائمان بي حد الوله.. منذ عطرين.. وأكثر، غاب عنها.. وحتى الليلة لم تعرف ما تفعل في غيابه.
غريبة هي حد غربة الحنين.. تجهش في كل تفصيلة للصبابة، تدرك فيها أثره وقد مر على رصيفها العاشق ذات وجد..أخذت تتأملهما معا.. يحيط خصرها بذراعي غوايته الأبدية.. وهي كالفاتنة المشتهاة تفيض عيناها سحرا عاشقا بطريقة غامضة كجرح شهي.. كنت متيمة بهما معاً حد العبادة.. هناك حيث الياسمين المزهر بالفتنة والغواية.. لبثت تنتظر صوته.. بينما طلائع الخريف الكامنة بانتظار شتاء قلبه الكبير ترهق روحها بمطر دمع وشيك.. فكرت «حياة».. لا بد وأنه في مكان ما من هذا العالم، يقطف لها زهرات الجبال الشتوية، من ذرا الضباب، هناك حيث ثمة عاشق أبدي للشام، لا يلوي على شيء سوى وجهها الكريم في روحه.. شغفاً شغفاً حتى الذوب، أفسحت لطيفه مكاناً قرب رمانة القلب.. لا تكاد تبرُدُ لوعتُها حتى يجعلَهَا تشُبُّ من جديدٍ ناراً من حنين لا تخمد.. «حياة».. أشتاقك.. أين أنت.. لقد بحثت عنك مجاهل الياسمين ولم أجدك.. بحثت عنك غناء بردى ولم أجدك.. بحث عنك نسائم الربوة ولم أجدك.. أين أنت في هذه الشامة الكبيرة على خد الجمال.. أين أنت وأنا أزرع روحي على خطوك شتلات حب أبدي…. أربكتُني عيناكَ, إذ رأيتُهُما أوَّلَ فتنة..كانتا كوُعُولٍ بريَّةٍ جائعة.. أربكني ارتباكُ صوتِكَ.. وأنت تطابقُ بين ذاكرَة عينيكَ وروحي لَكَمْ أطبقتُ روحي على ذكرى ذلك الصَّوت، ذاك المرتعش، المبحوح بغيمة من حنين.. كم احتفظتُ بصرختك المكتومة في رُوحِكَ.. وأنتَ تهتفُ بي، ولي: «هاقد وجَدْتُك» وفي ليلِ دمشقَ العاشق، أدركتُ أحلامَنا المُوغلةَ في البَدءِ، حيثُ الشُّرُوقُ المُتكرِّرُ للقلب.. حيثُ سرُرُ البهجة.. وبساتينُ النَّوم……. صاخبٌ هذا المساء، وأنا نجمةُ حنين.. صاخبٌ بكَ، ووجهك على صفحة القلبِ يتلاشى كما الموجِ الرَّخيِّ على شواطئ هذه الروح، فتعلق أقمارُ حنيني بثوبك الصَّدفي المُتعب.
ليتَ روحي تغتسلُ بالفيضِ من روحي، ليت تلك اللهفةَ الحرَّى لا تبردُ بابترادِ مائكَ على شواطئي.. أنا المفعمةُ بكَ، النَّشوانةُ، الممتلئةُ حتى أقاصي الشِّغاف.. أيُّها الزَّبَدُ الطَّافي على وجه حبيبي، وجعي أنت كالحياة.. وجعي أنت بحجم الحياة، متعبة الرُّوح، رأسي مشدودٌ بأثقالٍ من حديد، وروحي موثقة إلى ألمٍ أبديٍّ، لو أستطيعُ التَّخَفُّفَ منه، منِّي، بالبكاء، على الأقل، ليتك تأخذُ هذا الرأسَ إليكَ فأرتاح، ليتَ قلبي ليس مني، هذه المُضغةُ الأليمةُ الفانية، ليتها ليست مني.. تبتعدُ.. ويبتعدُ وجهُك البحرُ، الفجرُ، رويداً رويداً حيثُ جعبةُ الزَّمان، وأنا هنا ماكثةٌ نجمةً من ملحٍ.. على شواطئَ من رماد، هناااااااااك..حيثُ نجمَتُنا البعيدةُ..البعيدة..حيث سأرتِّبُ لغيابي القادم.. سأبدأ من هناك، حيث ضحكاتي الطفلة في أزقَّتك يا شام ذاكرتي.. لقطات تلك الذاكرة في حاراتك.. وجوه الطيبين، أم عادل الفلسطينية، و»أبو عادل» يتوضَّأُ من إبريقِ الزَّمان.. هناك حيث طمرتُ ألعابي خلسةً في خبايا ذاكرتك يا دمشق، والباقيات غابَت مع وجه أمي.. تلاشت مع صوتها وهي تغني ما تحفظ من الأغاني، وهي تعجن رغيف الشقاء والخير، كذلك فإنَّ حقائب الذاكرة، لا بد تتَّسِعُ لليالي الشَّام قارسة الشتاء.. القارسة بعسكرها وحربها.. الدافئة بحقول الياسمين على صدرها.. سأهيئ لي سفراً مريحاً، وغياباً صامتاً هادئاً.. قطارُ المسرَّات الهاربُ أشرع صفارات السَّفر..والعمرُ محطَّة لا أكثر.. فقط تفاصيل وجهكَ، وجهينا، ونحن نلتقط صورة وطن حزين ماجد هي كل زادِ هذا الغياب..
ليندا إبراهيم
التاريخ: الجمعة 20-9-2019
رقم العدد : 17079