على جوانب الطرق كانت حكايتهم .. وفي الحارات المتداخلة تناثرت قصصهم بعضها من وجع وبعضها من تقدير حال .. شريحة واسعة من أبناء المهن تعنينا جميعاً ومع اختلاف نظراتنا اليهم ،يبقى هؤلاء محط احترام وتقدير..فكل شخص يعيش على هذا الكوكب يجب ان يكون في داخله عامل نظافة لاعتبارات كثيرة ومبررة في رصيد عين المجتمع .
عمال النظافة حديث الظروف الصعبة ،يشار لهم بالبنان وتقض مضاجعهم عبارات التقصير ، فهل هؤلاء معنيون لوحدهم ببقاء الشوارع و الأحياء والحواري نظيفة ،أم هي معادلة حدّها من نسيج صحوة ضمير، واهتمام، ومسؤولية من قبل الجميع.
في الماضي
قبل الدخول بتفاصيل واقعهم وآليات عملهم ،نشير أنه في الماضي كانت نساء الحي في المدينة والقرية على السواء يتباهين بنظافة شوارعهن ومداخل بيوتهن وحارتهن دون أن يكن على موعد مع عامل نظافة ..أو بالأحرى لم يكن أحد يجرؤ على أن يراكم أكوام القمامة مهما كان حجمها، رغم أن عامل النظافة كان يمر في ساعة محددة لجمع أكياس القمامة من نقاط محددة في مداخل الأحياء في المدن..
ومع تطور الحياة وزيادة عدد السكان وتغير الأنماط العمرانية من الأفقي إلى العمودي ،مافرض على الواقع طرقا جديدة ومتطلبات ابتكار لآليات فن التعامل مع نظافة الأمكنة في البيئة عمادها العامل البشري الذي يتقن ويتفهم طبيعة العمل و التي تحتاج الى جهد وصبر وتحمل،لكن للأسف لم تعد وشرائح الناس المختلفة تتعامل مع حالة النظآفة كقيمة جمالية للمكان وحضارية في بعدها الاستراتيجي بعدما أصبحت مقياسا ومعيارا لتوصيف مدن العالم وفق مجهر النظافة لدرجة ان هناك مسابقات عديدة أجريت لاختيار أجمل مدينة أوبلدة بالعالم حسب تقييم سلم النظافة .
وعلى الرغم من أن بلدنا سورية لم تقصر يوما على صعيد المؤسسات والوزارات المعنية في تأمين ودعم مستلزمات مهنة عمل النظافة من تأمين الحاويات والأدوات الشخصية الصغيرة والكبيرة والآليات إلى مستلزمات اللباس،مازال هناك نقص كبير بالأيدي العاملة وافتقار العامل لأبسط الحقوق من كفوف وجزمة وغيرها ناهيك عن قلة التعويضات والأجر.
مظاهر غير لائقة ..خاصة وان القمامة في العديد من المناطق لاترحل باكرا وغالبا ماتبقى حد الظهيرة نظرا لنقص السيارات المخصصة وبعد المسافة مايستغرق وقتا في الذهاب والإياب.
قمامة في مهب الوقت
وعلى مايبدو أن منظر القمامة المتناثر على جانبي الطريق في أغلب الشوارع الرئيسة لبعض أرياف مدينة دمشق أصبح أمرا عاديا لا يزعج نظر المعنيين كثيرا وحتى عمال النظافة انفسهم أقلعوا عن مهمة ترحيل القمامة باكرا لقلة عدد الآليات فتبقى أكواما متناثرة لما بعد الساعة الثامنة تعبث فيها أقدام المشاة من مارة وطلاب مدارس وموظفين تفترش الأكياس الفارغة والكرتون وما تبقى من نفايات منزلية وسط الشارع وعلى جانبيه بشكل مقزر للنظر .مظهر غير حضاري يبعث الكآبة في النفس وبدل أن يستفتح المواطن صباحه باستنشاق رائحة الياسمين والعطر المرشوش على لباس طلاب المدارس يكاد يزكم أنفه من عفونة الزبالة عفوا من القمامة التي تهيىء لبيئة من الأمراض المختلفة مع قدوم فصل الشتاء وارتفاع نسبة الرطوبة من اليوم وصاعدا..؟!
فالموضوع لايعكس في النفس إلا حالة ازدراء واشمئزاز لما للمنظر من رواسب عالقة ،في الشوارع والحارات وأينما دارت عينك فالمشهد واحد، بألوان مختلقة ..حاوية قمامة ممتلئة حتى لا تستطيع ان تقترب منها باعتبارها محاطة بمساحة أمتار من القمامة ناهيك عن وجود حاويات فارغة لكن الوصول إليها غير سالك.فعلى امتداد نظرك وأنت تعبر أينما كنت شوارع العاصمة وغيرها تباغتك أكياس وبقايا القمامة المهاجرة مع اول هبة هواء….
سائق سيارة جنتلمان..رمى كيس القمامة وسط الشارع لأنه لم يصل الى الحاوية لتخمتها دون أن يؤنبه ضميره على شيء
وهنا الحقيقة على لسان أصحابها تجسد واقع الحال كما هو، فحين كنت اصور بعض اللقطات لبعض أكوام القمامة النافرة في الشارع الرئيسي لإحدى مدن ريف دمشق الغربي لم يستغرب عامل النظافة هذا الأمر لكنه سارع كماغيره إلى فرز أكياس الخبز المرمية بما يحدث غصة في النفس ،إنه العامل محمد موظف في بلدية قطنا يعمل في هذه المهنة منذ ثمانية عشر عاما متزوج ولديه ثلاثة أولاد ،يتقاضى راتبه بمقدار ٣٩ ألفا،لا يوجد مشكلة في العزيمة والقدرة على الشغل والعمل لكن المشكلة تكمن بقلة الآليات إذ لا يوجد إلا سيارة واحدة فقط تقوم بأعباء ترحيل القمامة بالاطنان كل يوم وفي حال تعطلت لأمر طارىء يصبح هناك مشكلة كبيرة ،لاسيما وان الاستعانة بتراكتور واحد لايستطيع ان يخدم كامل مساحة المنطقة الواسعة . إضافة إلى استهلاكه وقتا أطول قرابة الساعة لقاء ترحيل القمامة إلى مكب رخلة ..
كذلك زميله محمد العبيد الذي يعمل في مهنته هذه منذ العام ١٩٩٨ متزوج وراتبه ٤٤ ألفا صادفته صباحا وهو بكامل نشاطه وحيويته وبابتسامة تشي برضاه عن أهمية الدور الذي يؤديه عمال النظافة بين أن ما يهمه وزملاؤه أن تكون شوارع المدينة نظيفة ،وأن يتقيد الأهالي بالنقاط المحددة لتجميع نفايات منازلهم، اذ لايعقل ان نلم اكياس القمامة من أمام كل بيت في بعض شوارع المدينة .
نبش القمامة
والمعضلة الأخرى التي تواجههم هي عادة نبش أكياس القمامة من قبل العديد من الناس صغارا و كبارا ما يجعل اتساع مساحة النفايات وبعثرتها في الشوارع والأحياء مثيرة للاشمئزاز ناهيك عن لعب القطط والجرذان وغيرها.
والأمر الآخر الذي أشار إليه العامل حسن نايف هو قلة اليد العاملة حيث لايوجد الا أربعة عمال ،إلى جانب الصعوبات التي تم ذكرها..من نقص في أدوات الكنس واللم والكفوف المخصصة والجزمة الواجب توفرها..
لم ينف هؤلاء العمال وغيرهم الكثير أنه لديهم بطاقات تأمينية وتم رفع طبيعة العمل لعمال النظافة ١٠٠% وأنهم يأخذون تعويضاتهم كافة إلى جانب وصل اللباس لكن بنصف القيمة في بعض البلديات وهذا الأمر يختلف بين بلدية وأخرى فبعضها يعطي قيمة الوصل ب١٢ الفا على سبيل المثال وأخرى تصرف قيمة الوصل بستة أو سبعة آلاف،أما الوجع العام فهي قلة الرواتب التي تلامس معظم شرائح أبناء المجتمع.ناهيك عن ارتفاع الأسعار المزري حد القهر ،وهنا يعلق العامل محمد قائلا»على أيام التسعة آلاف ليرة ،كنا نعمل جمعية وناكل فروج ع الكيف بالأسبوع ،رزق الله .أين كنا وأين أصبحنا في ظل جنون الاسعار».
الوجه الآخر
واذا كان عمال النظافة المؤمّنون في وظيفة قطاع عام فإن ظروفهم تبقى اهون بكثير ممن يعملون بأجر مفرق..كحال الشاب» وديع -ل،الذي يقوم بنقل القمامة من الحارات والبيوت البعيدة عن نقاط تجميع القمامة والتي لا تصل إليها سيارة البلدية .مقابل أجر متفق عليه يتقاضاه بشكل يومي أو أسبوعي وهذا الأجر بالتأكيد لايسد رمق الحاجة لكن يبقى الرمد خيراً من العمى كما يقول هذا الشاب الذي أعياه ضيق الحال باعتباره معيلاً لأسرته المهجرة من ريف حلب.
في حين ابو محمد الذي اعتاد على طلته بعض أهالي وحارات حي التضامن بعربته الصغيرة التي يجمع فيها أكياس القمامة ويوصلها الى المكان المحدد لقدوم السيارة المخصصة لترحيلها .
ابو محمد الذي تبدو عليه علامات التعب والشقاء والارهاق الفارقة فهو شخص محترم بعين هؤلاء الناس الذين يقدرون أعباء مهنته ويقدمون له الشاي الساخن وبعض الفاكهة وغيرها من تفاصيل كرم تجعله يرتاح بعض الوقت في قيلولة خفيفة تساعده على الانطلاقة بعمله من جديد ،فكل عامل له قطاع مخصص للعمل فيه ما يجعل الألفة والاحترام ودفء قلوب هؤلاء وتخفف عنهم وطأة ووزر هذا اللون من العمل..
ان الحديث عن شجون ومعاناة مديريات النظافة في دمشق وريفها وبقية المحافظات يبدأ ولاينتهي بحكم الظروف المعقدة وتشابك المستلزمات التي يجب تأمينها من حاويات كافية وقلابات وسيارات ويد عاملة لترميم النقص الحاد في هذا الجانب اذ لم يعد يقتصر عمل هذه الشريحة على ترحيل قمامة المنازل فقط بل زادت المهام إلى ترحيل الأنقاض وبقايا الأشجار المقلمة وبعض الأساس المرمي في حاويات الزبالة وهذا كله يحتاج إلى تفريغ كي لا يحدث ضرر لبعض الآليات الضاغطة .
أخيراً
هي صور من واقع ،ومشهد من تفاصيل وقصة وجع تنوح مع الايام..في الصباح الباكر يسبقون الجميع، بعضهم ربما يتثاقل و يتأخر قليلا،وبعضهم ينحني على مضض ومع ذلك ينجزون مهامهم التي لا يحسدون عليها..انهم عمال النظافة ..هذه الشريحة التي تعمل بصمت وتتحمل أوزار أبناء المجتمع وهم يغضون الطرف عن بشاعة ممارساتهم حين يلقون نفايات المنازل بشكل عشوائي ليأتي عمال النظافة ويحسنون المنظر، فتوصيف النظافة سمة حميدة نقدرها عند هؤلاء .
التاريخ: الاثنين 18-11-2019
الرقم: 17125