الأحفــــاد والأجــــــداد… عـــــلاقـــــة تأثيــــــر متبادلــــــة.. المعـــــارف تتكــــامـــل بيـــن التجــــارب والخبـــــرات المكتســـــبة عنــد الجيليـــــن
تختلف العلاقات والأدوار في المجتمعات وتتطور حسب طبيعة كل دور ومتطلبات المرحلة التي نعيشها ،وكما يقال «لاشيء يخلق على المصادفة في هذه الحياة»وإنما هي قائمة على مجموعة من الخبرات المتراكمة عبر الزمن ،حيث لا مستقبل دون ماضٍ ولا حديث دون قديم ،تلك المقاربة بين هذه الأشياء تتماهى مع الأدوار الإنسانية والوظيفية بخصائصها ومشاكلها.
فدور الأجداد بما يمتلكونه من خبرات خاصة ومكتسبة وحتى المعارف تتكامل مع ما يمتلكه الحفيد عبر تجاربه الخاصة متجلية في الدعم النفسي الذي يقدمه كل منهما للآخر بطريقته وأسلوبه، فالجد أو الجدة قد وصلوا لمرحلة عمرية أقنعتهم بأنهم أدوا رسالتهم الإنسانية وآن الأوان للاستراحة بعد كل العناء والعطاء، لكنهم رغم هذه القناعة سواء برضائهم أو بدونها يجدون في أنفسهم قيمة وقدرة كبيرة لابد من الاستفادة منها وعندما تتهيأ الفرصة لهم بذلك يتجلى الدعم النفسي بصورة كبيرة لأنهم أدركوا بأنهم ذوو قيمة والفرحة الكبيرة عندما نهيئ لهم فرصة المتابعة والإشراف على الجيل الجديد وخاصة أحفادهم ثمرة حياتهم ونتاجهم ،وتراهم في سرور عندما ينقلون المشاكل والصعوبات التي مروا بها وتجاوزوها أو عرفوا كيفية التعامل معها والأجمل نقل تجاربهم الخاصة وكفاحهم للوصول إلى ما هم عليه.
أما الكثير من الأحفاد اليوم وفي زمن كثرت فيه الأمراض والمشكلات الاجتماعية والتربوية والسلوكية ناهيك عن الأمراض النفسية والجسدية التي لم تكن زمن آبائهم وأجدادهم رغم بساطة حياتهم لم يجدوا من يدعمهم نفسيا ويقتل عزلتهم ويشعرهم بأهميتهم أي الجد والجدة بدعوى الاستقلالية وعدم التدخل في شؤون أسرتهم الصغيرة.
ولعل الكثير منا يتساءل اليوم هل كانت الأسرة الممتدة التي يعيش فيها الأجداد والأبناء والأحفاد ضمن بيت واحد ضامنا للحد من هذه الأمراض الاجتماعية؟أم إن مشاركة المرأة في أداء دورها والعمل في المجتمع ورغبتها بالاستقلال والبعد عن كبار السن «الجد والجدة» كان عملا سلبيا أم ايجابيا؟وهل من الحكمة أن نبعد أبناءنا عن أجدادهم رغم حكمتهم وخبراتهم وتصرفهم في كثير من الأمور بعقلانية أم إن هذه الخبرات قد عفا عنها الزمن ولم تعد تتوافق مع عصرنا ؟وليس آخرا ما الآثار الناجمة عن ذلك البعد في بناء شخصية أبنائنا وعلاقة الجيلين مع بعضهم البعض؟ تلك الاستفسارات غيض من فيض عما يختلج في النفوس..
الحاجة بدرية أم محمد 80سنة وجدة لأكثر من 20 حفيدا وحفيدة بصوت خافت تقول:كنا في زمن زوجي رحمه الله نعيش سويا مع أولادي الأربعة وأبنائهم الذين أعتبرهم جزءا مني أفرح لفرحهم ويسقط قلبي كلما سقط أحدهم على الأرض أضحك لشقاوتهم وأتلذذ كلما أطعمتهم ،كانوا يهربون من أمهاتهم ليحتموا بي وكلما أرادوا شيئا طلبوه مني لأنه سيلبى فورا إذا كان معقولا، بعد وفاة زوجي اتفقوا على بيع البيت والاستقلال كل في بيت وعائلته الصغيرة وكان نصيبي العيش مع ولدي الصغير في بيت صغير، بعد زواجه واجهت الكثير من المصاعب منها أن زوجته تتضايق من الأولاد ،أشتاق إليهم لكنني لا أريد المشاكل لولدي مع زوجته ،اليوم أحس بأني فقدت دوري وأملي في هذه الحياة.
أما الشاب إبراهيم 40 سنة فيتمنى العودة إلى حضن جدته ولو لساعات قليلة.
السيدات إسراء وعفاف وأم غفران وغيرهن تحدثن عن أثر الجدة في ترتيب بيوتهن والتعامل مع أسرهن وكيف كانت الجدة من خلال قصصها الممتعة وتصرفاتها أمامهن خير معلم وخير مرشد للفتيات ناهيك عن أكلاتها الشهية التي تتفنن بها والتي لها طعم ومذاق خاص لا ينسى.
هي أمثلة كثيرة سمعنا بعضها وعايشنا البعض، أيام نستذكرها بكل اشتياق لم نلمس مثله اليوم.
العلاقة وطيدة
في جامعة دمشق كلية التربية قسم النفس كان لقاؤنا مع الدكتورة نعمة غالب الداهوك والتي خبرنا في نهاية اللقاء أنها عايشت تلك التجربة مع جدتها التي اعتبرت أن العلاقة بين الحفيد وجده علاقة وطيدة وتضاهي علاقة الآباء مع أبنائهم، ذلك أن العاطفة التي يحتاجها الحفيد يجدها عند جديه لعدة أسباب منها أنهم متفرغون ولا يتركون المنزل إلا لظروف خاصة بعكس الآباء والأمهات الذين يذهبون للعمل خارج المنزل وهذا يفسر شعور الطفل الذي لا يجد من يستقبله في المنزل عند عودته من المدرسة بالعزلة والبرود العاطفي حيث المنزل بارد وكذلك الطعام بعكس الطفل الذي يجد جده يستقبله بالترحاب والاحتضان والدعوات بالتوفيق والنجاح والسؤال عن أحواله كما ويقدم له حاجاته العاطفية التي يبحث عنها، ناهيك عن أن الأهل المستقلين في مسكن خاص بعيدا عن الجدود يعودون منهكين من العمل ويواجهون الطفل بتعليمات ونواهٍ: ادرس اغسل وجهك رتب حاجياتك, وأحيانا بالدعوات السلبية، ما يجعل هذا الطفل منهكا عاطفيا وتربويا.
أمهات صغيرات
وتشير الدكتورة نعمة إلى أن المشكلة تزداد خطورة عندما تكون الأم صغيرة نتيجة الزواج المبكر فكيف لطفلة أن تربي أطفالا وهنا تكمن الحاجة لسيدة كبيرة في السن توجهها وتنصحها بما لديها من الخبرة والصبر في التعامل مع الأطفال وخاصة بالكلمة الطيبة التي تجعل من هذا الطفل لينا يتقبل كل شيء بفرح وينفذ دون اعتراض ،أما ما نجده اليوم من انقطاع لصلات الأرحام فتعزوه الدكتورة نعمة إلى مطلب النساء اليوم بالاستقلالية والتي هي مطلب حق، لكن من دون مبالغة فيه والابتعاد عن حماتها وعدم تقبل نصيحتها وفي أحيان كثيرة اعتبارها ندا لها ,ما يؤدي لانقطاع الصلة ،تلك القطيعة التي تجعل الخطر يحدق في مجتمعنا وانتشار الكثير من المشكلات مثل صعوبات التعلم والتوحد ومخاوف الأطفال والقلق حتى سمي عصرنا بعصر القلق وكثير من هذه المشكلات ناجم عن ابتعادنا عن الأسرة الممتدة وافتقاد أولادنا لمن يربت على كتفيه والتي أثبتت الدراسات أنهم يحتاجون لتربيت لا يقل عن عشر مرات واحتضان، وهو ما يفسر انتشار ظاهرة الجفاف العاطفي عند الكثير من أبنائنا ،إضافة إلى انتشار اللهو بالثقافة الرقمية التي غزت الكبار والصغار والتي نتجت عن أن الطفل لا يجد من يدافع عنه عند عودة والديه من العمل منهكين خاصة عندما يؤنبانه وأحيانا يضربانه عندها يشعر بالاكتئاب ويهرب للهو واللعب بتلك الثقافة الرقمية ويتفاقم الأمر عندما يجد والديه بعيدين عن الحياة العاطفية واللمة العائلية التي تفعل الحياة التربوية والاجتماعية الصحيحة التي كانت بأسرنا سابقا، تلك الألعاب المسمومة بمعظمها والمؤثرة صحيا واجتماعيا حسب العديد من الدراسات التي أثبتت أن أخطارها على عدة نواحٍ سواء كانت نفسية أم جسدية أم اجتماعية مثل الصرع وضعف البصر والعزلة والانعزال عن الجميع فيجد الطفل نفسه كئيبا وحيدا بكل معنى الكلمة وبهذا ندفعه ونسلمه لتلك الثقافة.
تزايد حالات الطلاق
تعزو الدكتورة الداهوك الحالة التي وصلت إليها الأسرة العربية من تفكك وبروز للخلافات الزوجية بشكلها الحالي وبعمق لم يكن معهودا مرده إلى الابتعاد عن أواصر المحبة وفقدان صلة الأرحام وتضخم الأنا عند الأفراد فأصبح كل شخص يقول أنا ولا أريد لأحد التدخل في حياتي الخاصة فأصبحت المشاكل تكثر وخاصة الزوجية التي كان لكبار السن دور فاعل في تجاوزها والحد منها بالعطف والمونة أحيانا وبالكلمات الطيبة والتأليف بين القلوب أحيانا أخرى، لكن تضخم الأنا جعل تدخل الكبير غير مرغوب في تدخله بدعوى أن أفكاره بالية ما حدا بهم للابتعاد والعيش بعيدا عن الأبناء ولكن ما إن يدب الخلاف بين الزوجين المستقلين في شؤونهم ونتيجة ضغط أحدهما أو كليهما يهدم البيت وينفصل كل واحد عن الآخر ويترك الأولاد لوحدهم يواجهون مصيرهم دون كبير ينصحهم أو يرشدهم ،أما إذا طلب الابن النصح والرشد من الكبير فيجده غير مبال «يقلع شوكه بيده» والسبب هو إصرار الابن عن إبعاد الكبار عنه في فترة سابقة وبذلك يكون قد فقد مصداقيته ومحبة الكبير عندما أبعده عنه ،وهذا أحد الأسباب التي أدت إلى تزايد حالات الطلاق.
انتشار ثقافة الإقصاء والرفض
كما تزرع تحصد يطبق هذا المثل على الذين لا يرعون آباءهم ولا ينظرون إلى حالهم إلا تحت الضغط الاجتماعي وهذا الدرس يتعلمه الأطفال ليطبقوه مستقبلا مع آبائهم عندما يكبرون باعتبار الآباء قدوة الصغار وستنتشر تبعا لذلك كما تشير د.نعمة إلى ثقافة الإقصاء والرفض وعدم رد الجميل للكبير من ذلك انتشرت بعض المظاهر في مجتمعنا اليوم منها عدم احترام الكبير وعدم مراعاة سنه والجهر أحيانا واتهامه بالخرف علما بأن كلمته قد تعادل دفة السفينة المائلة للغرق.
الجدة وخيراتها
وبصوت عال تؤكد الدكتورة بأن كبير السن في البيت نعمة وبركة خاصة تلك الجدات الحكيمات بنظرتهم للأمور التي يعود الفضل لها في ترابط الأسرة وخاصة بالأرياف ،ولا ننسى دورها بالتربية السليمة التي يحبها الأبناء عبر قصصها الهادفة فهي تعطي بمحبة وتنصح بحب أكثر مما تعاقب تلبي الرغبات وتعطي الحنان الذي يفقده بعض الأبناء مع ذويهم لذلك يتقبل الحفيد نصيحتها ويسمع كلامها بكل مودة ويفضي لها بأسراره وخاصة الفتيات أكثر مما يفضون بأسرارهم لوالدتهم ،كما أن للطبيعة سحرها الخاص عند الجدات تفتقده الكثير من نساء اليوم وخاصة في التداوي والمونة وتعتمد الطعام الصحي لاكما تفعل نساء اليوم على المأكولات الجاهزة خاصة العاملات والتي أثبتت الدراسات أضراره على الصحة الجسدية والنفسية.
بين حزم الآباء وتدليل الأجداد
وحول مزاعم الآباء وخاصة الأمهات بأن تدخل كبار السن «الجد أو الجدة» يكون سلبيا في معظمه ويؤدي إلى تضارب في المسؤوليات يستغلها الطفل لمصلحته ،ناهيك عن الدلال الزائد والذي يفسد تربية الأولاد من قبل الكبار..أكدت الدكتورة نعمة الداهوك بأن وجود الأطفال مع أجدادهم يعمل على قتل عزلتهم ويشعرهم بالأهمية لكن الآباء والأمهات يعتقدون خاطئين بأن أسلوب التربية يأتي بالزجر والحزم كما تربى بعضهم وهو أفضل من العاطفة والرأفة، تلك الفكرة الخاطئة تجعل من أسلوب الجدود الأفضل والدليل على ذلك أن الكثير من الأطفال الذين يتعرضون للأوامر والنهي دون إسباغها وتغليفها بنوع من الاحترام والعاطفة التي يحتاجها الطفل كثر عندهم العناد بعكس الأطفال الذين يسبغهم أجدادهم ويحيطونهم بما سمي بالذكاء العاطفي ، وهذا يتضح من خلال سؤال الطفل عمن يحب أكثر والديه أم جده الذي يستخدم الابتسامة والكلمات الجميلة والتربيت على الكتف والتعزيز الإيجابي الذي يدفع للأمام والذي هو نوع من الدعم النفسي المحبب للطفل فيجيب بلا تردد جده لأنه أكثر تفهما وحنانا وعاطفة من الآباء فالجد عندما يطلب من حفيده شيئاً تراه ينفذ دون تردد.
الحكمة والتصرف الصحيح
من ذلك نجد الجد مصدرا للحنان الذي لا يجدونه غالبا عند الآباء لانشغالهم بالعمل فالجد له طرقه في الاحتيال على شيطنة أحفاده بسبب خبرتهم الطويلة وقلة عصبيتهم ولديهم الوقت الطويل لسماع هموم ومشاكل الأحفاد ولا يوجد أي تضارب في المسؤوليات بل على العكس تماما علينا كآباء وأمهات أن نعطي هذه القيمة للأجداد وتقبلهم والاعتراف لهم بالجميل والفضل والاستفادة منهم في رعاية أبنائنا والاستفادة من تقبل الأولاد لنصائحهم بكل سرور وإيصال المعلومة التي نريدها عبرهم وبذلك نكون قد وفرنا دعما نفسيا للطرفين وأوصلنا ما نريده دون زجر وعصبية أو كما يفهمها الصغار في السن بأنها أوامر أو نواهٍ وبذلك صنا هيبة الأب وكلمته.
الجد أهم مرشد نفسي
اليوم ومع تزايد الاضطرابات النفسية والقلق واضطرابات العصر والأمراض التي منشؤها نفسي علينا العمل على عودة الجدود للعيش مع الأحفاد فهم بمثابة المرشد والموجه للعديد من الأطفال بما يتبعونه من الدعم النفسي والاستماع الجيد للمشاكل وحلها بطريقة هادئة واعدة حيث يمارسون العمل الذي يجمع عملا تربويا اجتماعيا ونفسيا ودينيا بآن واحد علما بأن العديد من الآباء يلومون آباءهم «الجد»بأنهم يستخدمون نفس الأساليب التي هم نشؤوا عليها والتي يرفضها الأجداد اليوم لأنهم عبر هذه السنين قد اكتسبوا طرقاً ربما تكون مفيدة في التربية وتؤدي إلى نتيجة أفضل مع جيل اليوم.
يحيى موسى الشهابي
التاريخ: الجمعة 6-12-2019
الرقم: 17140