الملحق الثقافي-إعداد: رشا سلوم:
في مثل هذه الأيام أفرد يوسف المحمود أوراق العمر ومضى، لم يكتب إلى من يهمه الأمر، بل توجه إلى الأمر كله في حياته، الفقراء والناس البسطاء الذين أحبهم وعاش معهم، ولهم. حين نستذكر يوسف المحمود الصحفي والروائي، إنما نستذكر كيف كان وسيبقى ملء الحضور بكل شيء، بحبره وورقه ولفافة تبغه، هو اليوم بيننا كما كان، بل ربما يكون الغياب أقوى من الحضور.
يوسف المحمود الصحفي الذي عرفته سورية بما قدمه من نبض الحياة وآلام الناس من خلال زاويته الشهيرة التي استمرت لسنوات وسنوات (إلى من يهمه الأمر) يكتب عنه أحد الذين تتلمذوا على يديه قائلاً: وكانت بلسماً حقيقياً وصوتاً لا يقول إلا الحق، وإليه ذات يوم من عام 1986 كتبت رسالة شكوى وآلام من أمر ما، وما كان علي إلا أن أضعها في صندوق البريد لأفاجأ بعد أسبوع أنها تحولت بين يديه إلى زاوية تحبس الأنفاس، قرأتها مرات ومرات. أحقاً أنا من صاغني يوسف المحمود هكذا حروفاً من أمل وحياة؟ وتمر سنة ونيف وأعمل هنا بقسم التصحيح لأعانق حروفه الجميلة إذ لم تكن ثورة النت قد حدثت، سحرني خطه الذي يحشره في القسم الأخير من الصفحة، ودخان سيجارته التي يلفها، وحنان وسط زملاء يتحلقون حوله زميلاً وأستاذاً وموجهاً وأديباً، يدلي برأيه، يوجه هذا وذاك، لا يبخل على أحد بأي شيء.
يوسف المحمود الأديب والمبدع الذي لم ينصف حياً أبداً، حين أوقفت زاويته (إلى من يهمه الأمر)، أو حين أصدر روايته الذائعة الصيت «مفترق المطر»، وغيرها من الأعمال الإبداعية الأخرى مثل «حارة النسوان».
يوسف المحمود في أعماله الروائية والقصصية يجسد محطة هامة في الإبداع السوري، لم يغادر أبداً الينابيع الصافية العذبة مع الحداثة التي ترسخت جذوراً، وحين عاد ليروي في صفحتنا الثقافية بعض ما في الجعبة، وما أكثره، فتح خزائن ذاكرته، أحيا قصصاً وحكايات كاد الزمن يطويها، لكن عبق حبره أعادها إلينا ندية شفافة عطرة.
وفي شهادة مهمة للكاتب والروائي السوري أحمد يوسف داوود أوردها موقع طرطوس حين رحيل الكاتب يقول داوود: أحمد يوسف داوود تحدث بداية عن القيمة الأدبية لـ «يوسف المحمود» وأين تكمن فقال: «الأديب يوسف المحمود كان كاتباً منذ أن كنت في العاشرة من عمري، ولعله عُرف بشكل أوسع عندما كان يكتب زاويته اليومية في جريدة «الثورة»: «إلى من يهمه الأمر»، لكن شهرته الأدبية جاءت مع إصدار روايته الضخمة «مفترق المطر»؛ وهي تكاد تكون توثيقاً لفلكلور البيئة في منطقة «الدريكيش» التابعة إلى محافظة «طرطوس»، ولعادات سكانها وطرائق سلوكهم ولهجتهم، في قالب روائي أكثر مما هي رواية بالمعنى الشائع، إنها أقرب إلى العمل شبه الملحمي منها إلى الرواية بالمعنى المتداول، وفي مقدرة المرحوم «يوسف المحمود» جعل بيئة منشئه مادة فنية لعمل كـ «مفترق المطر» تكمن القيمة الأدبية العالية له».
ويضيف داوود: «كان للسيد «يوسف المحمود» شخصية رائعة حقاً، فهو طيب وودود وصادق مع نفسه ومع الآخرين، ولهذا كان محبوباً من قبل كل الذين عرفوه، ومعروفاً بسرعة البديهة وبالنكتة المتميزة في كل الأوقات، ونادراً ما رأيته غير ضاحك وغير متفائل، ومن يتمتع بشخصية كشخصية السيد «يوسف المحمود» وبموهبة رفيعة كموهبته في تصوير الواقع حوله، يصبح تميزه الفني أمراً بديهياً».
ويتابع الأديب داوود: «لم يكن في تقديري يهدف إلى شيء أكثر من أن يوثق للبيئة الطيبة البسيطة التي عاش أيامها في طفولته وشبابه الأول، ونحن نستطيع الاهتمام بما كتبه، لكن أن نحكم على أهدافه التي كان ينشد تحقيقها فذلك أمر كان يتطلب سؤاله شخصياً، نحن نسعى إلى معرفة ماذا كان يريد كتابنا؟ وما الذي كان ينقصهم؟ وما… وما… بعد الموت؟ أما في حياتهم فهم وما يكتبونه أمر ربما هو فائض عن الحاجة في حياتنا عموماً، كم أتمنى أن نترك مبدعينا يرقدون بسلام بعد أن شبعنا من محاربتهم بشتى الوسائل قبل أن يموتوا».
ولد يوسف أحمد المحمود في كفر شاغر (الدريكيش- طرطوس) عام 1932. تلقى تعليمه في اللاذقية وحمص وتخرج في جامعة دمشق حاملاً الإجازة في اللغة العربية، عمل مدرساً وصحفياً. وهو عضو جمعية القصة والرواية في اتحاد الكتاب العرب.
من مؤلفاته: المفسدون في الأرض- قصص، مفترق المطر- رواية، حارة النسوان- قصص.
التاريخ: الثلاثاء24-12-2019
رقم العدد : 979